أثبتت تطورات اليومين الأخيرين أن لا مناص أمام اللبنانيين سوى إنتخاب رئيس حديد للجمهورية. فمع انسدال الستارة على الفصل الثامن من مسرحية لم تعد تستهوي الكثيرين، ومع مغادرة "الممثلين" خشبة المسرح، عاد كل نائب إلى مكانه الطبيعي. فهناك يشعر نواب الأمّة، المنتمون إلى "كارتلات" سياسية لا تزال تأسر البلد، انطلاقًا من قناعات فردية وربما جماعية بأن ما تقوم به وحدها هو لخير البلد فيما أن ما يقوم به الآخرون، أيًّا كانوا هؤلاء الآخرون، هو الخطأ بعينه. فهذا يعتقد أنه يملك الحقيقة، كل الحقيقة، وذاك لا يريد أن يسمع ما يقوله الذين يخالفونه الرأي، لأنه مقتنع بأن رأيهم هو "هرطقة" وطنية بكل المقاييس.
فإذا أردنا أن نختصر أزمات لبنان، بدءاً بأزمة عدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لا يخطر بالبال سوى أمر واحد، وهو أن ثمة هوّة شاسعة تفصل بين اللبنانيين المنتمين غرائزيًا إلى أكثر من "معسكر" تتناتشها معتقدات متناقضة، من حيث الانتماء والهوية وكيانية الوطن والرؤية الموحدّة والنظرة إلى المستقبل والأدوار والتبعيات. وهذه كلها ليست ظرفية أو وليدة تطورات طارئة، بل هي متجذّرة في عمق لاوعي كل لبناني ينتمي إلى هذا "المعسكر" أو ذاك، طائفيًا أولًا، وسياسيًا ثانيًا. وهذا كله يجعل من إمكانية التفاهم بين مكونات وطن، الذي يُفترض أن يكون واحدًا، مستحيلة حتى على أبسط الأمور. فما يراه هذا الفريق أبيضَ يراه الفريق الآخر أسودَ. وهكذا دواليك إلى أن أصبح اللون الرمادي هو المسيطر.
وانطلاقًا من هذه النظرة فإن ما يفرّق بين اللبنانيين، وهو كما يقول بعض غير المتفائلين أكثر مما يجمعهم، باستثناء "التبولة" و"الكبة النية" والتغني بوطن "هالكمّ أرزة العاجقين الكون". فهل يكون "الطلاق" أبغض الحلال في مثل هذه الحال، وهل يكون رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل على خطأ عندما تحدّث عن خيار "الطلاق" في حال لم يقتنع "حزب الله" بأن لبنان هو لجميع أبنائه، الذين يجب أن يكونوا متساوين في الحقوق والواجبات، ويخضعون جميعًا لشريعة واحدة ولقانون واحد، يحميهم جيش واحد لا غير.
فأمام اللبنانيين اليوم فرصة تاريخية. فهم في "الهم" المشترك واحد. جميعهم أصابتهم مصيبة واحدة. فالجوع والفقر لا يميز بين طائفة وأخرى أو بين منطقة ومنطقة. فإمّا أن يقرروا أن وطنهم هو كيان قائم بذاته، وأن يكون مستقّلًا بكل ما لكلمة استقلال من معنىً في تاريخ الشعوب، وسيدّا وحرًّا بكل المواصفات الملازمة للسيادة الحقيقية وللحرية المطلقة، وإمّا أن يفترقوا بـ"المعروف".
أمّا أن يبقى الوضع على ما هو عليه، وأن يعيش اللبنانيون، الذين لا جمل لهم ولا ناقة بكل ما يجري من خضّات موسمية عاشوها على مرّ السنين، فهو أمر غير منطقي وغير مقبول لا بالعرض ولا بالطول.
وعندما نقول إن أمام اللبنانيين فرصة تاريخية لإنقاذ أنفسهم ووطنهم من شرور الطائفية والانتماءات الموسمية والظرفية نعني أن يصار إلى انتخاب رئيس توفيقي وميثاقي وعرفي، يعرف تاريخ لبنان وما مرّ به من محن وتجارب، ولديه رؤية استشرافية للمستقبل، الذي لا يمكن أن يشبه الماضي بمآسيه، وأن ينتقي منه ما فيه من ومضات مشرقة، ويُسقط كل ما كان له علاقة ببصمات تاريخية غير مشرّفة.
فانتخاب الرئيس "الرمز" لوحدة الوطن وأبنائه ومؤسساته هو خشبة الخلاص الوحيدة والمتبقية للبنانيين، الذين تغمرهم مياه البحر واليابسة، وتتقاذفهم الأمواج المتلاطمة والعاتية.
ولأنه لا يزال في لبنان مؤمنون كثر بأن لا غنىً لهم عن هذا الوطن، بكل ما فيه من تشوهّات خلقية، فإن الفرصة لا تزال سانحة، خصوصًا أن ثمة أصواتًا ترفض أن تكون محسوبة على هذا "المعسكر" أو ذاك، وترفض أن تساوم على كرامتها طمعًا بالمناصب والألقاب، وهي مستعدة لأن تناضل وتقاوم حتى تحقيق ما تحلم به لوطن مدني وغير طائفي يستحق أن يُعاش فيه بكرامة وعزّة نفس وإباء، ويفضّلون ألف مرّة مصلحة الناس وصحتهم على اعتبارات ثانوية لا تقدّم ولا تؤخرّ في مسيرة الشعوب نحو العيش بكرامة وحرية.