لم يكن بيان وزارة الخارجية الفرنسية، الذي دعا إلى إنتخاب رئيس للجمهورية قبل 31 تشرين الأول الجاري، مجردّ محطة من ضمن تسجيل المواقف المبدئية، بل جاء بعد البيان المشترك الذي صدر عن وزراء خارجية أميركا وفرنسا والمملكة العربية السعودية، وله أهداف محدّدة وتندرج في الخطّ الفرنسي البياني المرسوم للبنان منذ بداية أزماته الإقتصادية.
وهذان البيانان المكّملان لبعضهما البعض لن يكونا يتيمين بالنسبة إلى الإهتمام المشترك الأميركي – الفرنسي – السعودي، بل ستكون له ترجمات عملية على الأرض، بدءًا بما تحقّق حتى الآن بالنسبة إلى ترسيم الحدود، الذي يُنتظر أن يبصر النور قريبًا إذا لم تحدث أي مفاجآت من قِبَل العدو الإسرائيلي، مرورًا بالتحرّك الذي يقوم به السفير السعودي في لبنان وليد البخاري لدفع الإستحقاق الرئاسي نحو خواتيم مرضية لجميع اللبنانيين، فضلًا عمّا تقوم به السفيرة الفرنسية آن ماري غريو، وبالأخص على "جبهة" الضاحية الجنوبية، وما تسعى إليه باريس من خلال الوفود الرسمية بهدف تحقيق إنفراجات متتالية على أكثر من صعيد ومستوى، وأقّله في المدى المنظور تشكيل حكومة كاملة المواصفات قبل الدخول في مدار الفوضى الدستورية، وحثّ القوى السياسية على التوافق على رئيس للجمهورية من ضمن سّلة حلول غير منفصلة وغير مفكّكة.
وفي هذا الإطار ترى مصادر متابعة لسياسة فرنسا في لبنان وعلاقتها مع الدولة والقوى السياسية، أن هذه السياسة تقوم في هذه المرحلة على ست ركائز أو عناصر أساسية، وهي:
أولًا، تكثيف التعاون مع السلطات الرسمية والدول المانحة وصندوق النقد الدولي للوصول إلى الإتفاق المنتظر منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولا يرى الفرنسيون حتى اليوم ضوءًا ما في نهاية النفق، ويقولون بصراحة إن تشكيل حكومة جديدة أو تجديد الثقة بالحكومة الحالية وحتى انتخاب رئيس جديد لن تكون كافية، وأن المطلوب أداء تشريعي مختلف بالكامل لإقرار الإتفاق مع صندوق النقد .
ثانيًا، أن التنسيق مع السعودية سياسيًا واقتصاديًا في لبنان يُعّد من أبرز مساحات التعاون الفرنسي – السعودي المشترك في المنطقة، ويبلغ مجموع الأموال في الصندوق المشترك بين البلدين للتدخل في لبنان 63 مليون يورو، أنفق 19 مليونًا منها حتى الآن عبر جمعيات المجتمع المدني.
ثالثًا، التعاون مع السلطات الرسمية لتفادي الإنفجار الأمني، من دون أن يتضح سبب الخشية الفرنسية على الوضع الأمني.
رابعًا، تطوير التواصل وبناء الثقة أكثر فأكثر مع "حزب الله"، باعتبار أن تجارب التصادم معه لم تحقق لخصومه أي نتائج إيجابية.
خامسًا، التطلع إلى دور كبير لشركة "توتال" في حال الوصول إلى إتفاق الترسيم، يضمن للفرنسيين موقعًا نافذًا في مجال التنقيب على المتوسط.
ووفق هذه الأجندة الفرنسية التي تحدد الأولويات والإهتمامات، سيكون لفرنسا تواصل مع جهات إقليمية، وستكون لها حركة مكثّفة مع الأطراف اللبنانية على اختلافها، إما من خلال اتصالات يقوم بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شخصيًا مع بعض الجهات المحلية الرئاسية ومرجعيات فاعلة، وإمّا عبر موفد رئاسي فرنسي إلى بيروت لتبليغ الموقف الفرنسي، باعتبار أن الجلسة الأولى لانتخاب الرئيس كوّنت صورة أولية للمجتمع الدولي، ولا سيما للدول المعنية بالشأن المحلي، وثمة ارتياح لتحديد الرئيس نبيه بري الموعد الأول، على أن تليه دعوات متلاحقة، ما فتح الطريق أمام الإنطلاق بالحسم، والذي قد يكون تدريجياً من خلال المساعي الجارية راهناً.
ولا يُستبعد أن يكون الفاتيكان قد دخل على خط المشاورات الهادفة إلى تبريد الجبهة اللبنانية الداخلية عبر خطوات متلاحقة ومتواصلة تمهيدًا لإخراج لبنان من نفق أزماته غير المستعصية على الحلّ، خصوصًا إذا صفت نوايا جميع الأفرقاء، وتوافقوا بالحدّ الأدنى على ضرورة إنقاذ بلدهم من الغرق.