خبر

الوضع المعيشي يستحضر ظواهر اجتماعية “مرعبة” في لبنان

 

ابنة تعنّف والدتَها وتضربها بالحذاء. والدٌ يضرب طفله ويقيّده. زوج يحرق زوجته الحامل. شابان يقتلان والدة وبناتها. زوجٌ يقتل زوجته ويفلت من العقاب. اعتداءُ رجلٍ على مجموعة أطفال. شابان يعتديان على أطفال في قرية ومحاولات تغطية على المرتكبين. شبان يمارسون الدعارة طمعاً بالدولار، وشابات صغيرات يلجأن إلى الدعارة المستترة عبر مواقع متخصصة للغاية ذاتها.

دار عجزة يترك مرضاه عرضة للحشرات والأوبئة من دون أي اهتمام. مؤسسات اجتماعية تعنى بشؤون المعوقين تقفل أبوابها وتعيد المرضى إلى منازلهم، حيث لا رعاية متخصصة ولا أدوية ولا علاجات. رجل يقتل جاره بسبب الضجيج، رجل يشنق كلباً على شرفة منزله. امرأة تُطْلِق النار على كلب، وأطفال يتلهّون بتعذيب الكلاب ونشْر الصور على مواقع التواصل الاجتماعي…

كل هذا الخليط الإجرامي يحصل في لبنان، في تدهورٍ قِيَمي يمثّل تحولاً خطيراً في المجتمع اللبناني.

الأكيد أنها صورة سوداء لم يعرفها العالم العربي ولا لبنان الذي ما زالت العائلة تشكل نواةً أساسية فيه، كما الالتزام الديني على اختلاف تنوعه والذي يتغنى بحريّته وحقوق الإنسان فيه، ويحاول جاهداً بإمكانات ضئيلة، مواجهة الظواهر الاجتماعية النافرة برداتِ فعلٍ غاضبة ومندّدة وبتغطيةٍ إعلامية واسعة لملاحقة المعتدين.

علماً أن لبنان كان يسجل أعلى نسبة في احترام حقوق المرأة والأطفال وتشريع ملاحقة المرتكبين في الجرائم المرتبطة بالعنف الأسري وحقوق النساء فيه، بعد تعديلات تشريعية على مر السنين.

لكن التدهورَ المعيشي الذي تَفاقم وتَعاظَمَ وتَمَدَّدَ في الأعوام الأخيرة، قلب المقاييس الاجتماعية رأساً على عقب، وساهم انحسار دور المؤسسات الأمنية والرقابية وتَزايُد حالات العنف بسبب الأوضاع الأمنية والعسكرية وانتشار السلاح، في اتساع نزعات العنف المستشرية.

ففي مقابل صورة بلاد السياحة الساحرة، والسهرات العامرة والحرية الفردية، سجل ارتفاع في حالات غريبة عن العادات اللبنانية. لكنها تعكس في عمقها حجم المأساة الاجتماعية، وتَراكُم أشهر طويلة من المعاناة والفقر والجهل المرتبط بتدني مستوى الحياة وانعدام سبل العيش.

من الصعب على جمعيات وقوى أمنية تعنى بملاحقة ظواهر شاذة في المجتمع اللبناني أن تحصي بدقة الشكاوى وحوادث الانهيار الاجتماعي كون الكثير منها ما زال مخْفياً تحت ستار من الكتمان والخوف، في وقت تعاني المؤسسات الاجتماعية والأمنية نفسها فقدان مقومات عملها وتمويلها، وكذلك الأمر قدرة عناصرها المولجين تأمين الأمن والحقوق الاجتماعية والأمنية على متابعة عملهم وسط انهيار رواتبهم وحياتهم الاجتماعية.

إضافة إلى تعطيل عمل المؤسسات القضائية وتلكؤ قضاة عن تأدية واجبهم تجاه الضحايا، وعدم مواكبة البرلمان لتشريعات تُلاقي التطورات الاجتماعية الخطرة، وتساهم سواء مع مؤسسات اجتماعية أو دينية في كبح مسار العنف المتزايد.

قبل الانهيار الاجتماعي، عرف لبنان سلسلة حوادث مرتبطة بصورة حقوق الإنسان لجهة التعامل مع الخادمات الاجتماعية.

وسجلت في هذا الإطار شكاوى عدة لدى منظمات دولية حول حقوق العاملات الأجنبيات، واستبداد بعض العائلات بهنّ، وتسجيل حالات انتحار وهرب للعاملات بسبب سوء المعاملة.

وتَكَرَّر الأمر في ظل التدهور المالي وعدم قدرة بعض العائلات على تجديد إقامات العاملات لديها بسبب ارتفاع سعر الدولار، وقيام بعضها بترك الخادمات على الطرق وأمام سفاراتهن من دون تأمين حقوقهن.

ولم يكن عابراً أن تخرج إلى العلن وعلى نحو ملحوظ، أخبار حالات عنف أُسَرية، ومقتل زوجات على يدي أزواجهن، وتلكؤ الأجهزة الأمنية والقضائية في ملاحقة المجرمين وتوقيفهم وإنزال عقوبات شديدة في حقهم، بعضهم لأسباب انتماءات سياسية وبعضهم لنفوذ عائلاتهم، وبعضهم لتدخل جهات دينية نافذة.

ولم تكن انطلاقة منظمة «كفى» عابرة. فالجمعية التي تأسّست بسبب تكاثر العنف الأسري وضحاياه، أصبحت فاعلة قياساً إلى ظاهرةٍ تنتشر في صورة متسارعة في المجتمع اللبناني على اختلافه وتنوعه الاجتماعي والطائفي.

ومعها تنوعت الجمعيات التي تعنى بحقوق الإنسان والطفل والمرأة وصولاً إلى جمعيات تعنى بالحيوانات بعد تكاثر عمليات تعذيبها ورميها على الطرق وقتلها بمواد سامة.

مع تَفاقُم حالات الانهيار الاجتماعي في العامين الماضيين، وازدياد حالات الفقر وتعميم مبدأ اللاعدالة وعدم ملاحقة المجرمين، تكاثرت حالات العنف والقتل والحرق، كما أسلوب العصابات الإجرامية.

لكن هذه الحالات لم تكن وليدة عمل عصابات إجرامية، بل نتيجة حالات عائلية تتفاقم حدة، ونتيجة نزعات إجرامية ما زالت تُغطّى في بعض المجتمعات عن قصْد، بهدف التستّر عن المجرمين النافذين، أو خشية ردود فعل انتقامية، وحفاظاً على أرواح ضحايا أحياء.

حتى أن الحُكْمَ القضائي على أحد المجرمين، يتحوّل نصراً استثنائياً قياساً إلى حجم الحماية السياسية التي كان يحظى بها.

وتستمرّ على الرغم من ذلك دورة العنف بحدّتها مع انكشاف ظواهر جديدة. ومن حسنات مواقع التواصل الاجتماعي في ما يتعلق بهذه القضايا، أنها تساهم جدياً في كشفها.

ويضيء الإعلام اللبناني عليها ويواكبها لتحريك الرأي العام ضد المرتكبين، وحضّ السلطات المعنية على القيام بواجبها.

ولكن حجم مواجهة ما يجري ما زال ضعيفاً بالإمكانات المتوافرة ولا سيما في ظل العجز المتمادي للقوى الأمنية والقضائية، في وقت تتحول الأحياء الفقيرة والمدقعة إلى بؤر عنف مُسْتَشْرٍ وسط انتشار أوكار المخدرات والدعارة، وما يستتبع ذلك أحياناً من اغتصاب أطفال، ودعارة، لقاء مبالغ مالية.

وزادت حِدّة الممارسات المافيوية مع انخفاض قيمة العملة اللبنانية، والبحث المستمر عن الدولار الأميركي الذي تخشى معه مؤسسات أمنية أن تتحوّل بعض المناطق «سوقاً للدعارة».

ويعدّد أمنيون، إضافة إلى كل ما سبق، مجموعة ظواهر كانت وما زالت غريبة عما كانت تشهده عادةً المؤسسات الأمنية، كما يحدث مثلاً في موضوع بيع الأطفال. إذ تنشط سوق لشراء أطفال من نساء يحملن بناء على طلبات مسبقة من عائلات في الداخل أو الخارج، لقاء مبلغ مالي يراوح بين 3 أو أربعة آلاف دولار. ورغم أن هذا النشاط بدأ في بعض دوائر النازحين السوريين واستغلال بعض الشبكات أوضاع النازحات، إلا أن الشبكات إياها أخذت توسع نشاطها بين فئات لبنانية مستفيدة من غياب الأجهزة الرقابية وتعثُّر أوضاع المؤسسات الاجتماعية التي كانت ترصد عادة مثل هذه الظواهر.

وقد لا تكون هذه هي الصورة المُشْرِقة التي يريد اللبنانيون إظهارَها في وقت ترزح البلاد تحت مشكلات سياسية واقتصادية كبيرة، لكن «لكل عملة وَجهان» والأزمة الاجتماعية والمالية الكبيرة تفرز وجهاً بشعاً لم يعرفه لبنان حتى في خضم الحرب الأهلية.

والمشكلة الكبرى أن عاتق المعالجة يقع بالدرجة الأولى على الجمعيات والمؤسسات غير الرسمية التي تقوم بجهود كبيرة وتحل محل المؤسسات الرسمية، فيما ينشغل السياسيون عن سَنّ تشريعات ضرورية وتحفيز الأجهزة المعنية لتفعيل دورها في حماية النساء والأطفال والعجزة.​