كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
هناك صلاحية واحدة قوية بقيت لرئيس الجمهورية بعد «اتفاق الطائف»، ولا تتحمَّل أي تأويل. إنّها موافقته على التشكيلة الحكومية قبل إصدارها. إذ لا يمكن إصدار مرسوم بتأليف أي حكومة ما لم تحمل توقيعه. وهذه الصلاحية ستمنح الرئيس قدرات هائلة على المناورة في الأشهر القليلة المتبقية من العهد.
اليوم، سيصبح المجلس النيابي مكتمل الجهوزية لبدء عمله. وأول المطلوب منه أن يكلِّف شخصية سنّية تأليفَ حكومة جديدة، خلفاً لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي. والاستشارات النيابية الملزمة التي يوحي الدستور بأنّ على رئيس الجمهورية أن يأخذ بنتائجها، هي التي تحدِّد هوية الرئيس المكلَّف.
هناك هامش واسع أمام الرئيس للدعوة إلى الاستشارات. وعلى الأرجح، هو سيلعب ورقة الوقت الضاغط ليكون له موقع وازن في اختيار رئيس الحكومة المكلّف. وبعد ذلك، يصبح رئيس الجمهورية صاحب صلاحية حاسمة في عملية التأليف.
والجميع يذكر أنّ رئيس الحكومة السابق سعد الحريري زار بعبدا مراراً وتكراراً، بين ربيع وصيف 2021، حاملاً الصيغ المختلفة لتشكيل الحكومة، وكان يعود خائباً حتى انتهى به الأمر إلى الاعتذار. وأما ميقاتي فقد نجح في تشكيل حكومته بفضل التدخّلات الفرنسية.
اليوم، سيكون الأمر أكثر صعوبة، لأنّ عون لن يدع الورقة الأخيرة المتبقية له، قبل المغادرة، تُهدَر مجاناً. فالعهد يخوض آخر المعارك، ومعه فريقه السياسي، وعلى أساسها سيتقرَّر: يكون أو لا يكون!
هذا الأمر «احتاط» له عون منذ بدايات العهد. وعمد الخبراء في الدستور والحقوق، المحيطون بالرئيس، إلى تقديم طروحاتهم المتعلقة بنهاية الولاية، والسبل التي تتيح لعون وفريقه السياسي أن يحافظا على موقع قوي بعد خريف العام 2022. وكانت الفكرة الأبرز هي أنّ رئيس الجهورية لا يسلّم صلاحياته الدستورية للفراغ.
وهذه المسألة كانت أول الحوافز التي دفعت «التيار الوطني الحرّ» إلى الضغط لإنجاز الانتخابات النيابية في موعدها، في 15 أيار. فلو تأجّلت الانتخابات لبقيت حكومة ميقاتي كاملة الصلاحيات، ولكانت قادرة على تولّي صلاحيات الرئاسة بالوكالة عند انتهاء الولاية، من دون أي إشكال دستوري.
ولكن، بعد الانتخابات، باتت حكومة ميقاتي في وضعية تصريف الأعمال. وبدأت الأوساط المحيطة ببعبدا تتحدث عن عدم جواز تسليم صلاحيات الرئاسة لحكومة منقوصة الصلاحيات، وفي وضعية تصريف أعمال. فرئاسة الجمهورية ليست «عملاً» يجري تصريفه، بل هي المؤسسة الدستورية الأولى في البلد.
وهكذا، فإنّ الانتخابات النيابية، وبمعزل عن «النكسة» التي أصابت «التيار»، كانت خدمة لا تُقدَّر له، لأنّها أخذت حكومة ميقاتي إلى وضعية التصريف قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية. ولكن، هذا التشكيك بحكومة التصريف، الصادر عن الحقوقيين والسياسيين القريبين من بعبدا، يرفضها الخصوم قطعاً.
والأمر يتعلَّق بتفسير المادة 62 من الدستور، والتي جاء نصَّها ملتبساً، وهو الآتي: «في حال خلوّ سدَّة الرئاسة لأي علّة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء».
فليس واضحاً في هذا النصّ إذا كان المشترع يقصد بعبارة «مجلس الوزراء» أن تكون الحكومة مكتملة المواصفات أو في وضعية التصريف. ويسأل القريبون من بعبدا: كيف لحكومة ميقاتي، في وضعها الحالي، أن تتولّى صلاحية رئيس الجمهورية، المنتخب في المجلس النيابي، فيما هي نفسها تفتقر إلى ثقة هذا المجلس؟
في الأسابيع والأشهر المقبلة ستدور معركة ساخنة بين القائلين بهذا الطرح وذاك. وفي لبنان، لا تُحسَم نتائج المعارك بالتفسيرات الدستورية، بل بالتسويات السياسية. و»صمود» عون، مع فريقه السياسي، سيكون مرهوناً بما يحصل عليه من دعم داخلي وخارجي.
واستناداً إلى الخبرة والمعرفة بسلوك عون، على مدى عقود، يمكن توقُّع أزمة تأليفٍ طويلة. فالرجل لن يرمي الخرطوشة الوحيدة المتبقية له في المعركة. أي، بالتأكيد، لن يوقِّع مراسيم أي حكومة، إلّا إذا راعت أحد عاملين:
1 – أن تتمّ عبرها المقايضة بالموقع الرئاسي، لمصلحة رئيس «التيار» جبران باسيل. وهذا الأمر بات أكثر صعوبة لأسباب عدة.
2 – أن يكون فريقه السياسي قوياً في الحكومة بما فيه الكفاية، وأن يمتلك هامش الحركة في أي عهد مقبل.
وإلّا، إذا تعذّر تحقيق أي من الهدفين، فإنّ عون سيرفع لواء الدستور ويقدِّم الفتاوى لتبرير بقائه في الموقع، إلى أن تُشكَّل حكومة جديدة، علماً أنّه يبقى هو نفسه صاحب الصلاحية لإصدار مراسيمها.
إذا حصل هذا الأمر، فإنّ حالاً من الإرباك والفوضى الدستورية والسياسية ستسود البلد، تُضاف إلى المأزق الذي يتعمَّق يوماً بعد يوم مالياً ونقدياً واقتصادياً وإدارياً، والذي لن تنفع معه الحقَن المخدّرة، كتلك التي اعتمدها المصرف المركزي – لأيام قليلة على الأرجح- بهدف إمرار استحقاق رئاسة المجلس النيابي، في منأى عن أي انفجار اجتماعي وشعبي.
فاليوم، سيتمّ انتخاب رئيس المجلس بغالبية ضعيفة نسبياً، وستحضر الأوراق البيض بقوة. بعد ذلك، سيعاني البلد كثيراً لتكليف شخصية جديدة تشكيل الحكومة. وبسبب تشرذم الكتل داخل المجلس الجديد، سيتمّ التكليف بغالبية ضعيفة أيضاً، فيما الحكومة القائمة لا تمتلك صلاحيات فاعلة.
وفي هذا المناخ، ستكون المؤسسات كلها مربكةً وموضع تشكيك. وإذا عاند عون بمغادرة بعبدا، فالرئاسة أيضاً ستكون موضع تشكيك. وهذا ما يضع البلد أمام مرحلة صاخبة بكل المقاييس، ولن تحلَّها إلّا تسوية جديدة قد يضغط الوسطاء الفرنسيون والعرب لإبرامها. لكن أي تسوية ستبقى رهناً بالظروف ومعادلات القوة الخارجية. ولذلك، تبدو الاشهر الآتية أكثر تعقيداً.