خبر

كرنفال الثلاثاء: طقوس لمجلس مشلول

كتب ابراهيم الأمين في “الأخبار”:

كان الراحل محمد حسنين هيكل يقول إن تحدّي الصحافة الورقية هو في الوصول الى حيث لا يمكن للكاميرا أن تصل إليه. وهكذا هي الحال مع طقوس غير مرئية تصاحب كرنفال الثلاثاء.

يجتمع مجلس النواب بهيئته الجديدة غداً. لا مقرّ المجلس تغيّر، ولا آليات العمل فيه، ولا الموظفون ولا حرسه ولا طقوس الدخول الى قاعاته والخروج منها. المقرّ الذي جدّد بعد انفجار المرفأ، كان قد تعطّل بسبب جائحة كورونا. وما سيلفت انتباه الناس هو مشهد النواب الجدد الذين يمثلون نسبة كبيرة من أعضاء المجلس، سواء من يدّعون تمثيل التغييريين في البلاد أو الذين التحقوا بركب القوى التقليدية. وهؤلاء سيظهرون، كما في كل المرات السابقة، مثل طلاب الصف الأول في المدرسة. قال لي نائب من دورة عام 2000 إن الأفضل لكم، أنتم معشر الصحافيين، أن تصلوا الى عائلات هؤلاء للسؤال عمّا فعلوه طوال ليلة الاثنين ومنذ ساعات صباح الثلاثاء. كيف سيختارون ملابسهم، وأيّ سيارات سيركبون للوصول الى المجلس، وكيف سيتصرفون أمام الكاميرات، وماذا يحضرون من مواقف لإطلاقها خارج القاعة أو داخلها. كلها طقوس يصعب على الصحافيين التقاطها. يتذكّر النائب نفسه كيف أن زوجته أوصته «انتبه، كل الكاميرات مركّزة عليك، انتبه الى كل حركة، وإلى كل سلام، ولا تنسَ أن تبقى مبتسماً طوال الوقت… ولا بأس لو غازلت الصحافيات أيضاً»!

مصيبة النواب غداً تكمن في عدم وجود عازل يستخدم لإخفاء ورقة الاقتراع. هذا لا يعني أن كثيرين يجاهرون بمعارضتهم إعادة انتخاب نبيه بري رئيساً للمجلس. لكن معظم النواب يعرفون أنها مهمة يسمح فيها بالغش، شرط أن لا تضبط متلبّساً من رفاقك وليس من الناظر. وفرز الأصوات سيظهر أنه ليس صحيحاً أن الجميع التزموا بما أعلنوه من مواقف. ومع ذلك، فإن بري نفسه مهتمّ بأن ينجح في الدورة الأولى، وسيكون حزيناً إذا نجح خصومه في إلزامه الانتقال الى الدورة الثانية.

غداً، سيجد بري نفسه وحيداً في هذه القاعة. لن يهتمّ بكل النقاش حول صورته عند الآخرين. سيراقب حشداً من «الأولاد»، كما يراهم، عليه أن يتحمّلهم جميعاً، المهضوم منهم أو ثقيل الظلّ. وهم سيتصرّفون معه على هذا الأساس. حتى الذين يرون فيه خصماً سياسياً أو طائفياً سيضطرّون إلى التعامل معه كأمر واقع. لكنّ بري سيظلّ ينظر بين المقاعد. يفتش عن آثار رفيق الحريري ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية. ربّما يجد نفسه وحيداً بعد كل هذا العمر. سيجد صعوبة في إيجاد اللغة المشتركة مع كثيرين من النواب الجدد. وهو لا يعرف إن كانوا سيحترمون قواعده في إدارة اللعبة. ولن تنفعه حماسة نواب من كتلته للدفاع عنه في حال تعرّضه للانتقاد، لأنّ هؤلاء، أيضاً، يبحثون عمّا يقيهم شرّ التنمّر والاضطهاد على يد كتلة هجينة لا أحد يعرف كيف سينتهي بها الأمر خلال أشهر قليلة.
جديد مجلس الغد هو الصورة الواضحة لأفول نجوم تسوية التسعينيّات. لن يكون في هذا المجلس سوى أقلية تدافع عن بقية اتفاق الطائف بنسخته السورية – السعودية – الأميركية. وسيكون الجميع أمام سجال يستند الى تفسيرات سياسية جديدة للدستور. ولذلك، سنشهد نقاشاً حاداً داخل المجلس وخارجه حول طريقة إدارة العمل داخل الهيئة العامة وداخل اللجان. وسيكون بري عرضةً لأكبر ضغط منذ تولّيه هذه المهمة، لأن غالبية كبيرة جداً، بمن فيها حلفاء له، تطالب بتغيير قواعد اللعبة. وهو التحدّي الأكبر أمامه.

لكن، ماذا علينا، نحن الناس، الذين شاركوا أو قاطعوا الانتخابات، أن ننتظر من المجلس الجديد؟

أولاً، سيكون من الوهم والجنون توقّع انقلاب في الإدارة الدستورية للبلاد مع المجلس الجديد. وسيُصدم كثيرون بنوع التحالفات التي ستواكب عملية انتخاب رؤساء اللجان النيابية ومقرّريها وأعضائها، الى جانب هيئة مكتب المجلس. الأمر لا يتعلق بالمواقف المبدئية، بل بضرورات الإدارة اليومية لهذا البيت الذي سيعيش فيه هؤلاء لأربع سنوات. حتى من يرفض ويرفع الصوت ويجادل سيكون مضطرّاً إلى تحمّل بديهيات العمل في هذه المؤسسة، لأن جوهر الأمر ليس في هذا الجانب الشكلي.

ثانياً، ستكون أمام القوى السياسية كافةً بنود واضحة لجدول أعمال حقيقي متّصل بالانهيار القائم. ماذا يمكنهم أن يفعلوا في مواجهة التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية؟ وكيف يمكنهم إقناع الناس بأنّ التغيير ممكن من خلال مجلس النواب؟ وبما أنّ معظم المعارضين للتسوية التي ستعيد بري الى رئاسة المجلس، سيستمرون في الحملة السياسية التي بدأوها في الانتخابات النيابية، فإنّ علينا عدم توقّع عمل تشريعي حقيقي ونوعي. وبالتالي، يجب أن ينتبه النواب الجدد الى أنهم تحت الأنظار أكثر من الآخرين، وخصوصاً من يملكون مؤهّلات تسمح لهم بطروحات تتصل بأصل المشكلة التي تعيق بناء دولة عادلة.

ثالثاً، إن سيركاً قائماً خارج المجلس سنراه داخل القاعات. سيكون من الصعب على «ثائرين» التخلّي عن القبضة المرفوعة والصوت الهادر، وسيتصرّفون لوقت طويل على أن الجموع تقف خارج المجلس تستمع إليهم بمعزل عما يحققونه من إنجازات، لكن مشكلة هؤلاء هي في عدم قدرتهم – أقلّه حتى اليوم – على إظهار برنامج مرحلي فيه قدر عالٍ من التوافق في ما بينهم للتصرف إزاء أولويات تهمّ الناس في عيشهم اليومي.

رابعاً، سنكون أمام مجلس نيابي يتصرّف على أنه في مواجهة استحقاقات كبيرة. تتّصل بالحكومة الجديدة، وبالاستعداد للانتخابات الرئاسية بعد بضعة أشهر، وبالموقف من التجاذب السياسي حول موقع لبنان في الصراعات القائمة في الإقليم. وليس مستغرباً أن يستمر السجال أو أن يحتدّ. لكنّ المشكلة ستكون قائمة في ما لو فكر بعض هذه القوى أن المجلس النيابي يصلح لإحداث تغييرات جوهرية في مسار الاتصالات اللبنانية والإقليمية والدولية الخاصة بتأليف الحكومة وانتخاب الرئيس الجديد، وما بينهما من مشاريع لاستجلاب أموال تنعش اقتصاد البلاد، ما يقودنا إلى استنتاج بأن المجلس قد يكون معطلاً من الناحية التشريعية، أو أن يتحوّل إلى منبر لخطب لا تفيد في شيء.

أخيراً، التجربة السياسية الكبيرة للرئيس بري تمنحه الفرصة لالتقاط الإشارة الى وجود مزاج جديد في البلاد. مزاج يفرض عليه إدخال تعديلات جوهرية على طريقة إدارة المجلس، بمعزل عن كل الحسابات الصغيرة التي تحوم من حوله أو يهتمّ لها آخرون من حلفاء أو خصوم. على رئيس المجلس أن يتصرّف على أنه أمام مهمّة تسليم المجلس بصورة ستحفظ في الذاكرة. وبيده، هو فقط، جعل هذه الصورة أقلّ سلبيّة عما هي عليه اليوم!