كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
يختلف برلمان 2022 عمّا سَبقه من برلمانات منذ العام 2005 انه لا يوجد أكثرية واضحة لدى اي جهة سياسية والتقاطع بين الكتل النيابية سيتمّ على الأرجح وفق كل ملفّ بملفه، أي على القطعة، لأنه حتى داخل التوجُّه الواحد التعددية سيدة الموقف في ظل تباينات معظمها شكلي الطابع.
خَطفَ انتخاب نائب رئيس مجلس النواب معظم التركيز في جلسة يوم غد، ليس فقط لأنّ انتخاب رئيس المجلس محسوماً، بل بسبب عدم تبلور أكثرية مرجّحة لاسم معيّن، وما ينطبق على هذا الاستحقاق سينسحب على الاستحقاقات الدستورية الأخرى، وكذلك الأمر على العمل البرلماني برمّته في المستقبل في ظل تجربة جديدة لا يمكن الحكم عليها من الآن انطلاقاً من قاعدة ان الأمور تُقاس بنتائجها.
والطابع الأساس لمعركة نائب الرئيس معنوي واختباري: فإذا نجحت الأكثرية التعددية الجديدة في الاتفاق على اسم واحد تكون قد فرضت نفسها وإيقاعها بدءا من الجلسة الأولى للبرلمان، وتكون قد واصلت تسجيل النقاط بعد فوزها في الانتخابات، ما يمدّها ويمدّ جمهورها بجرعة معنويات إضافية تدفعها إلى مزيد من رَصّ الصفوف وتسجيل النقاط في الاستحقاقات المقبلة وفي مقدمها تكليف رئيس الحكومة.
وأما الاختبار، فكل القوى معنية به من أجل معرفة الاتجاه الذي ستسلكه بعض الكتل والنواب الجُدد في أوّل استحقاق عملي في موقعَي رئيس مجلس النواب ونائب الرئيس وهيئة مكتب المجلس ورئاسة اللجان، وعلى رغم انّ هذا الاختبار هو أوّلي ولا يُعدّ تموضعاً نهائياً للنواب الجدُّد، إلا انه يشكل مؤشراً لا بد من أخذه في الاعتبار.
ولكن المواجهة الأهم والأبرز تبقى في تكليف رئيس الحكومة باعتبارها الأداة التنفيذية من جهة، ومحور الخلاف من جهة أخرى، بين مَن يريد إحياء حكومات الوحدة الوطنية، وبين من يريد حكومة اختصاصيين مستقلين او حكومة أكثرية منبثقة من الأكثرية الجديدة.
ومعلوم انّ ثلاث قوى أساسية ستضع كل ثقلها وجهدها وضغطها لتأليف حكومة وحدة وطنية، وهي: «حزب الله» و«حركة أمل» و«التيار الوطني الحر». وبالتالي، تريد هذه القوى ان تربح معركة التكليف من أجل ان تضمن التأليف الذي تسعى إليه للأسباب التالية:
السبب الأول يتعلّق بالعهد الذي دخل في الأشهر الأخيرة في نهاية ولايته ويريد الرئيس ميشال عون ان يطمئن إلى تسليم صلاحيات الرئاسة الأولى لحكومة سياسية يتصدّرها النائب جبران باسيل وله فيها الحصة الوازنة، فضلاً عن حاجة باسيل إلى التوَزُّر رداً على العقوبات الأميركية، واستعادةً لدور سياسي وزاري يطلّ من خلاله أسبوعياً واستطراداً يومياً، وباباً لخدمات وتوظيفات وتعيينات هو بأمسّ الحاجة إليها في محاولة لإعادة ترميم وضعيته على أثر التراجع الذي أصابها في السنوات الأخيرة.
السبّب الثاني يرتبط بـ«حزب الله» الذي كان قد وافقَ على مضض، على أثر انتفاضة 17 تشرين، على تأليف حكومة اختصاصيين ولو انه قام بتسمية وزرائه، كونه يعتبر مشاركته الرمزية السياسية في الحكومة حماية لسلاحه ودوره ورسالة إلى الداخل والخارج بأنّ هذا الدور يتكامل ولا يتناقض مع وجوده داخل السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهو يعدّ العدة للعودة إلى الحكومات السياسية.
السبب الثالث يتّصل بـ«حركة أمل» التي لا يمكن ان تقبل بحكومة هي خارجها، وتتمسّك بمشاركتها السياسية ولو من خلال وزراء اختصاصيين لم تكن تخفي، خلافاً لباسيل، تسميتهم ومرجعيتهم الواضحة، ولن تتهاون مع محاولة إخراجها بعنوان حكومة اختصاصيين او حكومة أكثرية، كما انها تريد أن تُعيد الغطاء الحكومي للنائب علي حسن خليل على أثر العقوبات الأميركية وتفجير المرفأ.
ومن المتوقّع ان تضمّ الحكومة خليل وباسيل والوزير محمد فنيش في حال نجح ثلاثي الحزب والتيار والحركة في اجتياز عتبة التكليف وصولاً إلى التأليف، وسيُصار إلى تأليفها في أسرع وقت ممكن، ولن يكون هذا الثلاثي حينذاك على عجلة من أمره في الاستحقاق الرئاسي كونه يفاوض من موقعه الحكومي المُمسك بالقرار السياسي، والمتّكئ على الموقف الغربي الذي يريد الحفاظ على الاستقرار.
ولكن التحدّي الأساس أمام الحزب والحركة والتيار هو الفوز في جولة التكليف، لأنّ خسارتهم هذه الجولة يعني قطع الطريق على هدفهم تشكيل حكومة سياسية، وسيكون رهانهم على استمالة بعض نواب الثورة من باب أنّ أولوية المرحلة المقبلة معالجة الأزمة المالية، وانّ هذا الثلاثي منفتح على الحوار والنقاش في كل القضايا الأخرى.
وعلى الخط الآخر يُفترض بالأكثرية الجديدة، إذا كان هناك من أكثرية جديدة او المعروفة بكتل السيادة والتغيير، أن تخوض معركة التكليف موحّدة وإلا تكون قد بَدّدت نتيجة الانتخابات سريعاً، لأنه كيف يُصرف فوزها في الانتخابات إذا كان سيُعاد إحياء حكومات الوحدة الوطنية نفسها والنهج نفسه، فيما قدرتها على انتزاع التكليف تجعلها في موقع القوة والمبادِر إلى طرح تصوّر جديد في تأليف حكومة ما بعد 15 أيار التي يجب ان تختلف في طريقة تشكيلها عن حكومات ما قبل هذه المحطة؟
وغير صحيح انّ تأليف الحكومات يخضع لمعيار واحد في كل الأوقات والمراحل، إنما يخضع لطبيعة المرحلة ومتطلباتها، والمرحلة الحالية مالية بامتياز لا سياسية، وتستدعي تأليفاً استثنائياً لإخراج لبنان من أزمته، وقد حَكمَ الفريق الحاكم في حكومتين متتاليتين بعد الأزمة ولم يفلح بفرملة الانهيار ولا الحدّ من تداعياته. وبالتالي، بأيّ منطق يُعاد استنساخ النهج نفسه في التأليف وكأنّ الأولوية هي لِترَبُّع قوى سياسية في الحكومة وليس لإنقاذ الناس من الفقر والمجاعة وقيادة لبنان إلى شاطئ الأمان؟
والمدخل لعلاج الأزمة يبدأ باستعادة الثقة التي تشكل مفتاح الاستقرار المالي، ولا ثقة بحكومات وحدة وطنية يستعيد فيها باسيل وزارة الطاقة وخليل وزارة المالية وفنيش حضوره الوزاري، إنما مفتاح الثقة يكون بتشكيلة لا تخصِّص اي حقيبة لطائفة وتضمّ فريقاً وزارياً متجانساً يعمل بمقتضى الدستور ويضع الإصلاح نصبّ عينيه وتكون أولويته الناس والبلد وإعادة تجسير علاقات لبنان مع الدول الخليجية، وإذا كانت فعلاً أولوية فريق 8 آذار إنقاذ اللبنانيين من الانهيار فما عليه سوى الابتعاد عن الحكومة، وكل ما هو خلاف ذلك يعني الاستمرار في دوّامة الأزمة.
وفي حال نجحت كتل السيادة والتغيير في انتزاع التكليف وإعلاء مواصفات الحكومة التي تتطلّبها المرحلة، فهذا يعني انّ التشكيلات التي سيقدِّمها الرئيس المكلّف لرئيس الجمهورية ستُرفض الواحدة تلو الأخرى، الأمر الذي يُشرِّع الباب أمام فراغ حكومي مفتوح يقترب رويداً رويداً من مهلة انتخاب رئيس جديد للجمهورية في 31 آب المقبل، ومن المرجّح حيال الفراغ الحكومي والفراغ الرئاسي المحتمل ان تدخل فرنسا على الخط في وساطة بدفعٍ أميركي انطلاقاً من الحرص الدولي على الاستقرار اللبناني من أجل الوصول إلى تسوية بعنوان اتفاق-سلّة يتضمن الاتفاق على رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة وحكومة، وذلك بمواصفات مرحلة ما بعد الانتخابات ومتطلبات معالجة الأزمة المالية.
فقوى السيادة والتغيير أمام فرصة ترجمة انتفاضة الناس في صناديق الاقتراع بالوصول إلى سلطة تشبه الناس وتعكس إرادتها بالتغيير من خلال التمسُّك بثلاثية رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة وحكومة أولويتها تطبيق الدستور وتحقيق الإصلاحات المطلوبة ووَضع لبنان على سكة التعافي ولو الجزئي، لأنّ التعافي الكلي غير ممكن قبل تسليم «حزب الله» سلاحه للدولة. ولكن بالانتظار، فإنّ التعافي الجزئي مستحيل وسلاح الحزب يجلس حول طاولة مجلس الوزراء.
وفي حال فَوّتت قوى السيادة والتغيير فرصة انتزاع التكليف، فهذا يعني تفريطها بأصوات الناس وتبديدها سريعاً نتيجة الانتخابات واستعادة الفريق القابِض على السلطة اليوم زمام المبادرة في التكليف ومن ثمّ التأليف السياسي السريع لإبقاء القديم على قدمه. وبعدها، لن ينفع الندم شيئاً.