خبر

انحدار الخطاب السياسي في لبنان

كتب أنطونيوس أبو كسم في “نداء الوطن”:

لم نشهد انحداراً أو انحطاطاً في الخطاب السياسي كالذي رافق الانتخابات النيابية للعام 2022. لم نشهد خطاباً سياسياً منافياً للدستور ومناقضاً الأعراف الدستورية كالخطاب الذي ينتهجه عددٌ من المرشحين الفائزين. لم نشهد خطاباً سياسياً قائماً على شعاراتٍ مستهلكة أصابها العفن كشعارات السيادة والعدوّ والاحتلال والإرهاب والفساد وحماية حقوق الطوائف.

هذا المستوى السطحي والحاقد والمتكابر وغير الأخلاقي والتخويني من الخطاب السياسي يهدّد السلم الأهلي في لبنان. هذه الخطابات الممنهجة للسياسيين وقياداتهم، تصبّ في تحفيز خطاب الكراهية مهما كان اتجاهه. إنّ خطورة الحضّ على خطاب الكراهية أكان بسبب الموقف السياسي، أو المذهبي، أو الديني أو الفئة المهنية أو الاقتصادية قد تؤدّي إلى تهديد الانتظام العام السيادي والاجتماعي والاقتصادي، وإلى نشوب نزاع مسلح – حيث إنّ أحداث الطيّونة أبلغ مثال. فإنّ الشحن بواسطة خطاب الكراهية في روندا قد أدّى إلى تهييج الشارع ضدّ فئة أخرى من المواطنين وصولاً إلى الاقتتال وارتكاب إبادة جماعية.

ولخطورة الموضوع، لقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في تموز 2019 القرار 73/328 بشأن «النهوض بالحوار بين الديانات والثقافات وتعزيز التسامح من أجل مناهضة خطاب الكراهية»، والذي يدعو إلى منع التحريض على العنف المحتمل أن يؤدي إلى جرائم وحشية، التي تعرف أيضاً باسم خطة عمل فاس، وخطة العمل لمناهضة خطاب الكراهية، وسائر المبادرات التي تشجّع على التسامح والتفاهم.

إنّ ردّات فعل الشارع بعد كلّ خطاب سياسيّ، تنذر بخطر نسبة كراهية الخطاب والعبارات الطائفيّة التي تُردّد. فتظاهرات الموبيلات والموتسيكات وإطلاق الرصاص والمفرقعات والحجارة وصولاً إلى إطلاق قذائف الـ B7، مؤشّرات على خطورة انحدار الخطاب السياسي وعلى المستوى المرتفع لخطاب الكراهية. مستوى الخطاب المتّبع، قد يمسّ بسيادة الدولة ويهدّم عمليّة بناء السلام.

يضاف إلى خطاب الكراهية، الخطاب المنحطّ سياسياً وأخلاقياً وبيئياً. وللأسف وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة لجميع فئات المجتمع العمريّة والاجتماعية، دخلت العبارات المشينة إلى معجم الخطاب السياسي ناهيك عن الكلام البذيء، حتّى أصبح الحذاء مصطلحاً سياسياً، لينافس مصطلحات التشبيه بالحيوانات. ووصل الأمر بانحطاط الخطاب السياسي إلى التنمّر وخطاب السخرية والخطاب الجندري، ما يشكّل تلوثاً في حاسّة السمع وأشدّ ضرراً من تلوّث الهواء نتيجة حرق الإطارات.

ومن أشكال انحدار الخطاب السياسي، دغدغة مشاعر جمهور المجتمع المدني، عبر الاقتراح الإعلامي لمشاريع قوانين أو الإعلان عن الترشح إلى استحقاقات دستورية بشكل مناقض للدستور اللبناني العرفي والمكتوب، وعبر الكلام على تشريع سلوكيات اجتماعية تمسّ بالانتظام العام المجتمعي اللبناني.

ومن أشكال انحدار الخطاب السياسي، الخطاب الاستخفافي والسخيف، المنتَهَج من قبل مسؤولين حكوميين، يجيبون على أسئلة الصحافيين والشعب، عبر الأغاني، والمزاح المبتذل، أو بأسلوبٍ لا يخلو من السخرية حتّى من المسؤولين والديبلوماسيين الأجانب.

ومن أوجه انحدار الخطاب السياسي، الخطاب الكاذب والمضلّل، حتّى يصبح الزعيم شبيهاً بجحا فيصدّق كذبته جرّاء اقتناع الرعيّة، التي تنتشي أنّها تمتلك الحقيقة.

ومن أوجه انحدار الخطاب السياسي، الخطاب التأليهي والميغالوماني، والذي يختلف عن الخطاب السلطوي. خطاب سياسيّ مليء بالتبجّح والاستعلاء وحبّ العظمة، تعكسه حركات اليد والأصابع ونبرة الصّوت.

ومن أوجه انحدار الخطاب السياسي في لبنان، الخطاب الفتنويّ والتحريضي، والذي يهدف إلى المحافظة على موقع الزعيم، عبر إثارة جمهوره عبر خلق معركة وهميّة مع الخصم ليحوّله إلى عدوّ ما يعلي شأن المعركة. ومن مظاهر إفلاس الخطاب السياسي، اللجوء إلى هذا الخطاب الفتنوي والذي يذكّر بالحرب الأهليّة، وتكراره، وكأنه عنوان المعركة الوحيد.

ومن أوجه انحدار الخطاب السياسي في لبنان، خطاب التحريض ضد الجيش، والهجوم الكلامي على قيادته وضباطه وجنوده فقط بهدف تسجيل نقاط سياسية أو بهدف ضرب هيبة الدولة وإحداث الفوضى، ومحاولة ضرب مؤسسة الأمن الأولى التي لا تزال تعمل على كافة الأراضي اللبنانية. تجدر الإشارة الى أنّ إسقاط النظام يختلف عن مفهوم إسقاط السلطة.

ومن أوجه انحدار الخطاب السياسي في لبنان، خطاب بعض القيادات الروحية ورجال الدين المناقض للدستور والميثاق، وخطابها الذي يهاجم القضاء والقضاة وخطابها المطالب بحماية المجرمين والسارقين ومنع المحاكمة عنهم.

أليس بسبب مستوى الخطاب السياسي المتدني وشبه الفارغ المبني على الكراهية امتنع حوالى تسعة وخمسون بالمئة من المواطنين عن المشاركة بالانتخابات النيابية؟ أي أكثر من نصف الشعب اللبناني يرفض خطاب الطبقة السياسية المتنافسة ومن ضمنها فئة الثورة التي انتهجت للأسف خطاب الكراهية.

ومن أوجه انحدار الخطاب السياسي في لبنان، هو انحدار مستوى السلوك السياسي، حيث عمدت أغلبية الفائزين بالانتخابات إلى إقامة الحفلات، ومنها المحرّضة، أو الراقصة أو الزّاجلة، دون احترام الأغلبية الصامتة من الشعب التي تئنّ وجعاً وتتقيّأ السياسة بسبب طعم المرارة.

على مستوى القانون الدولي لحقوق الإنسان، تكمن المشكلة في شرعية الانتخابات، حيث إنّ انتهاج استراتيجية الكراهية والتشهير بالآخر شكّلت المحفّز الأكبر لنتائجها. هل يتجرّأ المجلس الدستوري على إلغاء نتيجة انتخاب مقعد نيابيّ بسبب تأثير خطاب الكراهية عبر تطبيق المواثيق الدولية وتحديداً العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنيّة، والذي يحظّر أية دعاية للحرب، أو أيّة دعوة إلى الكراهية التي تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف؟

إنّها «خطابات غير جديرة بالاحترام» – عبارة مقتبسة من خطاب رئيس الجامعة اليسوعية الأب المرحوم سليم عَبُو في 19 آذار 2001-، وأنا أضيف أنّه بعد إحدى وعشرين سنة على خطابه، أصبحت خطابات غير جديرة بالإنسانية وغير جديرة بالمواطنة، وقد تخطّت بأشواط أنماط الخطابات الثلاثة غير الجديرة بالاحترام -» الخطاب الإيديولوجي، الخطاب المزدوج، والخطاب البراغماتي واللغة الخشبيّة»-، والتي أدرجها في دراسته.

إنّ لبنان بأمسّ الحاجة إلى خطاب عقلاني يحارب التطرّف، ويكرّس احترام الإنسان، ويكرّس تطبيق الدستور وفصل السلطات، وبحاجة إلى خطاب سلميّ يرتقي من المستوى الطائفي إلى المستوى الوطني حيث تشكّل الطوائفيّة تثقيفاً للخطاب بعد أن كانت الطائفية مذلّة له.