خبر

سلامة الغذاء بلغت حافة الخطر

كتبت زيزي اسطفان في “نداء الوطن”:

كان لا بد أن تدوّي فضيحة اللفت المسرطن في ألمانيا حتى تعود الى الواجهة من جديد قضية سلامة الغذاء في لبنان التي تندسّ لفترة تحت غطاء هموم اللبناني الكثيرة لتعود الى الضوء مع كل حالة تسمم غذائي يُعلن عنها أو خروج بعض الأرقام المقلقة حول تزايد حالات السرطان في لبنان. المراقبة غائبة والمحاسبة عن المخالفات الغذائية تكاد تكون معدومة، الوضع متفلّت تماماً والسلامة الغذائية وصلت الى حافة الخطر فهل بات اللبنانيون يحاربون وحدهم عدواً يتربص بهم في أكلهم وشربهم؟

مراقبو وزارة الاقتصاد يجولون على المحال والسوبرماركات والأسواق ويسطّرون محاضر ضبط بالمحتكرين والمخالفين ويضبطون بعض المواد الغذائية الفاسدة وغير المطابقة لكن تبقى هذه الدوريات كمن يفتش عن إبرة في كومة قش. فالغش أكبر من أن تضبطه دورية مراقبة ويتشعب ما بين تاجر ومستورد ومصنّع ومهرب ومزارع وصاحب محل أو مطعم وغيرهم ممن يتعاطون في ما له علاقة بالطعام والشراب. ففي ظل الأزمة الاقتصادية كل يود أن يستفيد ويمشي أموره ولو على حساب صحة المواطن ولم تعد المواد الفاسدة محللة للتلف كما يقضي المنطق الصحي والإنساني بل بالمنطق المالي لا بد من تصريفها وتجنب خسارتها.

منذ أسبوعين بالضبط شهدت منطقة البقاع حوالى مئة حالة تسمم إثر تناول هولاء الطعام في أحد مطاعم المنطقة وفقاً لما يرويه لـ»نداء الوطن» نقيب الأطباء د. شرف أبو شرف. ورغم العدد الكبير من المصابين لم تدخل الى المستشفيات إلا الحالات القصوى منها للأسباب المادية المعروفة. لم يتم التحري عن سبب التسمم ولم تتخذ اية إجراءات بحق المطعم المخالف كما يقول النقيب، فليست المراقبة وحدها هي الغائبة بل المحاسبة والمعاقبة الرادعة .

الوضع خطير يؤكد نقيب الأطباء وسيزداد سوءاً وخطورة مع الوقت إن لم تتخذ الإجراءات الضرورية لردع كل المخالفات الغذائية والبيئية والصحية التي تثبتها الحالات التي يتم رصدها في المستشفيات رغم كون الكثير منها لم يعد يقصد المستشفيات. نسأل النقيب إذا ما كانت الحالات السرطانية قد ازدادت وازدادت الإصابات المعوية بعد ان حاولنا البحث في سجلات وزارة الصحة لا سيما السجل الوطني للسرطان عن إحصاءات ولم نجد أي تحديث لها فأكد أن الإحصاءات والدراسات شبه متوقفة مذ العام 2019 مع جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية وانفجار بيروت، كما أن قسماً كبيراً ممن يتعاطون الإحصاءات لا سيما في المستشفيات الجامعية بات خارج البلاد. «لكن لسنا بحاجة إلى إحصاءات موثقة يقول النقيب حتى نلاحظ ان الأمراض السرطانية قد ازدادت لا سيما في مناطق لبنانية معينة نسبة التلوث فيها عالية، وأن الالتهابات المعوية وما يرافقها من اعراض من قيء وإسهال وارتفاع في الحرارة خاصة إثر تناول الطعام خارج البيت باتت شائعة جداً والأصعب من ذلك عدم توافر الأدوية المعالجة وارتفاع كلفة الاستشفاء. البيئة ككل من حولنا ملوثة: الهواء، الماء، الطعام، الشراب، مياه البحر والتربة وإليها يضاف عامل السترس لتصبح كوكتيلاً ساماً يساهم بزيادة نسبة الالتهابات والأمراض السرطانية وهذا امر مؤكد علمياً وطبياً ولا يحتاج الى إحصاءات».

الهيئة الوطنية لسلامة الغذاء لم تر النور رغم إقرار قانون سلامة الغذاء منذ العام 2015 لكن تم في 13 ايار الجاري إطلاق خطة عمل وزارة الصحة لسلامة الغذاء وتشكيل اللجنة العلمية المُكلّفة وضع الاستراتيجية الوطنية لسلامة الغذاء بمساعدة عدد من الجامعات والمؤسسات المعنية. وأثناء الاحتفال بإطلاق الخطة شدد الرئيس ميقاتي على أن موضوع سلامة الغذاء بات يشكل أولوية قصوى في الظروف الحالية تفرض التشدد في ضبط هذا القطاع لجملة أسباب أبرزها سلامة المواطن وسمعة القطاعات الإنتاجية. وأضاف «إن ما نسمعه عن زيادة حالات التسمم الغذائي يستدعي تكثيف الإجراءات الذاتية من قبل المواطنين بالتوازي مع تدابير الجهات الرسمية والحكومية ذات الصلة» وكان الرئيس ميقاتي في اليوم العالمي لمرضى السرطان قد أشار إلى أن مكافحة مرض السرطان باتت تشكل تحدياً يومياً لأنه لم يعد يوفر بيتاً ولا منطقة ولا فئة عمرية، لافتاً إلى أن الإحصاءات الدولية والصحية تظهر لبنان على خارطة الدول الأكثر إصابة بالسرطان.

الحكومة إذا مدركة لتفاقم خطورة الوضع الغذائي والصحي، ولكن هل هي قادرة من خلال وضع قاعدة بيانات للملوثات الغذائية ومن خلال لجانها وحملاتها المتواضعة على مراقبة السلامة الغذائية بشكل فاعل كما ترتجي؟ وهل يجد مراقبو وزارة الصحة ومديرية حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد الدعم المالي الكافي أقله لتزويد سياراتهم بالوقود للتنقل الى كل مناطق لبنان او هل هم مستعدون لبذل الجهود المطلوبة في ظل رواتب لم تعد تكفيهم؟ وماذا عن المحاسبة التي يصر نقيب الأطباء أنها غير موجودة وعن عدم اتخاذ تدابير كافية لردع المخالفين وفرض عقوبات قاسية بحقهم تجعلهم عبرة لمن يعتبر؟

مع اقتراب موسم الصيف والسياحة يصبح الحديث عن السلامة الغذائية من المحرمات لأنه يضرب برأي البعض الموسم السياحي ويؤثر على حركة المغتربين والسياح ولكن يتساءل أحد الأطباء ما الذي يسيء أكثر الى السياحة: التحذير من خطر إهمال السلامة الغذائية أم أن يتحول لبنان الى دولة شبيهة بدول العالم الفقيرة حيث لا يجرؤ السائح على تناول مياه او طعام في اي مكان خوفاً من المشاكل المعوية التي قد تصيبه نتيجة التلوث الباكتيري الكيميائي ويروي قائلا: « لقد اعطيت زملاء لي قادمين من بلد اوروبي أدوية للإسهال مسبقاً قبل اصطحابهم الى المطعم تحسباً لما يمكن ان يكون».

على الأرض تبدو الأمور اشد قتامة والسلامة الغذائية تطرح أسئلة ملحة وفي حديث مع المهندس ميشال فرام رئيس مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية التي تقوم عبر مختبراتها الحديثة المنتشرة على معظم الأراضي اللبنانية بفحص عينات مما يأكله اللبنانيون ويشربونه وما يستوردونه ويصدرونه من مواد غذائية وتعرف «البير وغطاه» سعينا الى رسم خارطة لمكامن الخطر في غذاء اللبناني.

يؤكد فرام أن كثراً اليوم ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية وتلاشي الرقابة الفاعلة سيحاولون الاستفادة أكثر من المواد الفاسدة لأنها أرخص ثمناً. وقد رصدت مصلحة الأبحاث عدداً من المواد الفاسدة كان أولها كمية من القمح تحمل تعفناً وديداناً ثعبانية دخلت الى الأسواق اللبنانية وقد تم ختمها بالشمع الأحمر لكن تم فك الشمع عنها لاحقاً واستخدامها بلا رقيب. كذلك تم رصد لحوم بقر وغنم في إحدى المناطق اللبنانية مخلوطة بلحم خنزير يحتوي على التريشينوز وكانت المصلحة قد كشفت منذ سنوات أن 60% من اللحوم النيئة التي تستهلك في المطاعم والبيوت غير صالحة للأكل لاحتوائها على السالمونيلا أو باكتيريا أخرى موجودة في مياه الصرف الصحي لا سيما حين يستخدم في إعدادها الماء الملوث او البقدونس المروي بمياه آسنة. هذا إضافة الى انتشار اللحوم الفاسدة نتيجة سوء حفظها او بسبب وجود الباكتيريا فيها والتي تباع عادة بأسعار زهيدة بعد أن صار بعض التجار يأبون التخلص منها ويسعون الى إعاد ة بيعها. ولا بد من ذكر اللحوم والدجاج وحتى الألبان والأجبان التي تدخل لبنان عن طريق التهريب من دون أية مراقبة وتكون إما غير صالحة أصلا للأكل او فسدت نتيجة نقلها بسيارات غير مبردة وفي ظروف سيئة جداً او الموجودة في مستودعات غير مستوفية شروط السلامة والتي في ظل غياب التيار الكهربائي لم تعد قادرة على تأمين سلامة هذه المواد وقد تعمد الى التلاعب بها وبيعها بدل تلفها.

تتوالى سلسلة المواد الغذائية الخطرة التي تم رصدها في سلة غذاء المواطن اللبناني ومنها الخضار والحشائش الملوثة بالمعادن الثقيلة نتيجة مياه الري، المواد الملونة المسرطنة في بعض أنواع المخللات كاللفت الذي شكت منه ألمانيا مؤخراً، مياه الصهاريج المستخدمة في البيوت والتي قد تحتوي على مجارير ومياه الآبار الارتوازية المستخدمة للشرب او في الاستخدام المنزلي وهي بمعظمها ملوثة بالمياه الآسنة والمعادن الثقيلة نتيجة ضخ المجارير إليها. أما بالنسبة الى الألبان والاجبان فيؤكد فرام أن ثمة ما يعرف اليوم باللبنة الصب وهي ألبان لا تعتمد على الحليب بل على مواد نباتية وإضافات أخرى وقد يخطئ المستهلك ويعتبرها ألباناً طبيعية، وفي حين توجد في لبنان مصانع موثوقة جداً محترمة الا أن هناك مصانع أجبان وألبان لا تخضع لأية رقابة ولا يمكن التأكد من جودة منتجاتها. وهنا لا بد من الإشارة الى أن كل ما يصنع في لبنان لا يتم فحصه إذا كان مخصصا للداخل إلا إذا تم فحص عينات منه من قبل وزارة الصحة. ويؤكد فرام أنه في حال وجود بضائع للتصدير غير مطابقة للمواصفات المطلوبة فإنه يسمح باستهلاكها في الداخل في حين يجب ان يكون ذلك غير مسموح لتأثيره على جودتها وسلامتها.

ماذا عن المعلبات التي تغزو الأسواق بأسماء غريبة لم يعهدها الشعب اللبناني سابقاً؟ يقول فرام إن ثمة مصادر متعددة للمعلبات وكذلك درجات مختلفة من النوعية واليوم بات التاجر يتوجه الى البضائع الأدنى مستوى وحتى الى بلدان نامية معروفة بكون منتجاتها منخفضة النوعية للاستيراد منها. عموماً كل المعلبات المستوردة يتم فحصها في مختبرات مصلحة الأبحاث للتأكد من سلامتها ويتم رفضها إذا كانت غير مطابقة للمواصفات، ولكن هذا لا يعني أنه ليس بالإمكان إدخالها في غياب المراقبة. وبالنسبة للمعلبات فالخطر الأكبر يكمن في انتهاء مدة صلاحيتها والتلاعب بهذه الصلاحية. فالصلاحية هي الأولوية التي يتم التثبت منها ليصار بعدها الى فحص المكونات وكثر من يعمدون الى تغيير التواريخ وأغلفة المعلبات وغيرها من المواد حتى لا يخسروها.

مع غياب الرقابة والتيار الكهربائي أو ارتفاع كلفته ومع ازدهار التهريب ووجود ستوكات لا بد من بيعها لا يمكن القول إلا أن السلامة الغذائية في لبنان قد تراجعت الى حدها الأدنى وبتنا نأكل نوعية «ترسو» وما على المواطن ليحفظ سلامته إلا الاعتماد على نفسه واتباع تدابير السلامة والوقاية .