يبرز النفوذ الروسي بشكل خاص في سوريا من خلال الدعم العسكري والسياسي الذي تتلقاه دمشق، أما في لبنان المجاور فيبدو أن موسكو تلجأ إلى القوة الناعمة لتجد موطئ قدم لها إن كان من خلال التعاون الثقافي وأكثر منه الاقتصادي والسياسي.
عام 1951، افتتحت السفارة الروسية في لبنان أولى مراكزها الثقافية في بيروت ليبقى وحده طوال عقود من الزمن، قبل أن يتوسَّع العمل لاحقًا، وخلال السنوات العشر الماضية جرى افتتاح 9 مراكز ثقافية روسية في مناطق عدة بدعم مباشر من السفارة الروسية أو بمبادرة من لبنانيين.
وبين تلك المراكز ثلاثة فتحت أبوابها في صيف عام 2018 وحده، وتوزعت في عاليه (وسط)، وراشيا (شرق)، وحاصبيا (جنوب).
ويقول عماد رزق، مدير مركز الاستشارية للدراسات في لبنان: “هذا التوسع يأتي في إطار استراتيجية تهدف إلى تمكين التواجد الروسي في الشرق الأوسط”.
ويوضح الباحث في الدور الروسي في الشرق الأوسط جوليان: “نشهد في الأشهر الماضية دفعًا غير مسبوق في التعاون الثقافي في لبنان”، مضيفًا: “أن لبنان، المحسوب بشكل كبير على الغرب، هو مثل واحد على رغبة روسيا في تغيير نظام العالم”.
نفط وغاز
ورغم كونه من أصغر دول الشرق الأوسط، طالما شكَّل لبنان ساحة تتلاقى فيها المصالح الدولية أو تتخاصم في ما بينها، فتكثر التدخلات الإقليمية أو حتى الدولية في شؤونه الداخلية من السياسة إلى الاقتصاد إلى العلاقات الخارجية.
ولم تكتفِ موسكو بتعزيز تأثيرها الثقافي في لبنان، بل مكَّنت علاقاتها الاقتصادية مع هذا البلد لتتضاعف قيمة صادرتها إليه من 423 مليون دولار في عام 2012 إلى 770 مليونًا في عام 2017، وفق الجمارك اللبنانية.
ويجري حاليًا البحث في مشروع أطلق عليه “الكوريدور الأخضر” لتعزيز التبادل التجاري أكثر بين البلدين، خصوصًا من ناحية تسهيل دخول الصادرات اللبنانية الزراعية إلى الأسواق الروسية.
عام 2018، وقعت شركة “نوفاتك” الروسية ضمن تحالف مع شركتي “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية عقودًا للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية.
وخلال زيارة في آب الحالي إلى موسكو، دعا وزير الخارجية جبران باسيل الشركات الروسية للمشاركة في مناقصة أخرى قد تفتح قريبًا في المجال ذاته.
ويقول القنصل الفخري لروسيا في لبنان جاك صراف: “نأمل بأن يشارك الروس في ورشة العمل الضخمة لتطوير البنى التحتية اللبنانية”.
ومن المفترض أن تزداد الاستثمارات، والتي سيشارك في بعضها القطاع الخاص، في لبنان مع تعهد المجتمع الدولي بتأمين مبلغ يفوق 10 مليارات دولار على هامش مؤتمر “سيدر” الذي عقد في باريس في نيسان الماضي لدعم الاقتصاد اللبناني.
وأمل صرّاف بأن تشارك شركات روسية في بعض المشاريع التي ستتولاها شركات خاص.
دعم عسكري ولاجئون
تستفيد روسيا أيضًا من محاذاة لبنان لسوريا، واعتبر باسيل في هذا الشأن أن لبنان يجب ان يكون منصة لاعادة إعمار سوريا، والتعاون الاستراتيجي بين لبنان وروسيا ضروري لهذه الغاية.
ويقول صراف: “تسعى شركات روسية لوضع جذور لها في شمال لبنان من أجل المشاركة في إعادة إعمار سوريا”.
وتتحول المرافق اللبنانية في المناطق الحدودية مع سوريا في شمال وشرق البلاد إلى مركز أساسي للشركات التي تسعى للدخول إلى السوق السورية للمشاركة في إعادة الإعمار.
لكن العملية تبدو معقدة نتيجة العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة ودول أوروبية على شركات سورية وروسية على حد سواء، ولذلك فإن المصارف اللبنانية لا تزال متحفظة حيال تبادلاتها المالية مع نظرائها في روسيا، وفق ما يقول صراف.
واقترحت روسيا في تموز مبادرة تشمل لبنان من أجل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وهو ملف يثقل كاهل البلد الصغير الذي يستضيف مليون ونصف لاجئ سوري.
وتتضمن المبادرة، التي قدمتها موسكو لواشنطن ورحب بها مسؤولون لبنانيون، إنشاء مجموعة عمل في لبنان، تضم بالإضافة إلى ممثلين عنه مسؤولين من روسيا والولايات المتحدة، ومن شأن المبادرة الروسية أن تؤمن عودة نحو 900 ألف لاجئ سوري، وفق ما كان أعلن الرئيس ميشال عون.
ودخلت روسيا أيضًا على خط المنافسة مع الولايات المتحدة في سعيها لدعم الجيش اللبناني الذي طالما تلقى السلاح والتدريب من واشنطن.
واقترحت روسيا على الجيش اللبناني عقدًا بقيمة مليار دولار لدعمه بالمعدات والتدريب، إلا أن السلطات اللبنانية رفضت «في الدقيقة الأخيرة»، وفق صراف، والسبب ببساطة أن لبنان يخشى أن يفقد دعمًا أميركيًا مستمرًا في شتى المجالات، بينها دعم للجيش اللبناني منذ عام 2006 تجاوز حتى الآن 1,7 مليار دولار.
ويقول آرام نركيزيان، مدير مشارك لبرنامج العلاقات المدنية – العسكرية في مركز “كارنيغي للشرق الأوسط”: “إذا وافق لبنان أو حتى لمح لاحتمال موافقته على خط الائتمان الروسي لشراء معدات روسية، سيكون لذلك تداعيات جيوسياسة وخيمة، وربما نهائية، على على علاقته مع الولايات المتحدة”.