طوني عيسى – الجمهورية
عاد المزاج المسيحي إلى ما كان عليه قبل «التفاهم». طبعاً، لن تندلع «حربُ إلغاءٍ» جديدة بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» لأن لا سلاحَ لدى الطرفين، ولأنّ سلاحَ الدولة ما عاد سلاحَهما. لكنّ بالون الاحتقان المتبادل، الذي نَفَّسَهُ «تفاهم معراب» عاد وانتفخ. ويكفي تصفُّح مواقع التواصل الاجتماعي والاستماع إلى النواب والوزراء والكوادر في صالوناتهم الخاصة واللقاءات الحزبية لاستجلاء «بارومتر» التوتر المتبادَل. وهل هناك نموذجٌ أقوى من قصة الطالبة «القواتيّة» التي رفضت مصافحة الوزير جبران باسيل في احتفال تسليم الشهادات؟
لعلّ أكثر ما أثار الدهشة عند «افتضاح» أمر «اتفاق معراب» (كانون الثاني 2016) هو البند الذي ينصّ على أنّ الطرفين، «التيار» و«القوات»، يتقاسمان مناصفةً كل المواقع الوزارية المخصّصة للمسيحيين، بما فيها السيادية والخدماتية، وفي حكومات العهد كلها، «بعد احتساب الحصة المسيحية التي جرت العادة أن تكون لرئيس الجمهورية». ووفق الاتفاق، الحصة المسيحية للرئيس هي وزيران مسيحيان في حكومة من 24، أو ثلاثة في حكومة من 30.
أضف الى ذلك، اتفق الطرفان على اقتسام مراكز الفئة الأولى ومجالس الإدارة العائدة للمسيحيين، بما فيها المراكز القيادية كقيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان. وإذا لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق حول هذه المراكز، فالمخرَج يكون بـ»تبادل المراكز بينهما».
إذاً، ليس هناك أيُّ شك في أنّ «التيار» و»القوات» أرادا احتكار التمثيل المسيحي كاملاً. وفي عبارة أخرى، كان التصميم واضحاً على اعتماد «النموذج الشيعي»، فتكون هناك «ثنائية مسيحية» ساحقة تلغي كل الآخرين أو تضعهم تحت جناح أحد القطبين، سواءٌ في الإطار الحزبي – السياسي (الكتائب و«المردة» ومستقلّو 14 آذار وسواهم) أو في الإطار العائلي – المناطقي.
أصواتُ استياء مسيحية عدة ارتفعت في وجه محاولات الاحتكار الثنائي. فبالنسبة إلى عدد من هذه القوى، ليس جائزاً أن تنتقل عدوى الاحتكار من الثنائية الشيعية إلى المسيحيين. والأحرى أن يحصل العكس، فتنتقل عدوى التنوّع المسيحي التاريخي إلى الشيعة والآخرين جميعاً.
أحد المشاركين في صناعة «اتفاق معراب» يردّ على هذه النظرية بالقول: «لنكن واقعيّين. يستحيل فكّ الارتباط بين حركة «أمل» و»حزب الله». وبالثنائية أصبح الشيعة هم الرقم الصعب في البلد، ولا أحد يستطيع خرقهما أو مواجهة خياراتهما».
ولذلك، بعيداً عن التنظيرات والمثاليات التي لا تنفع في السياسية، أليس من مصلحة المسيحيين أن يجمعوا قواهم في ثنائي قوي، تدعمه رئاسة الجمهورية وكتلة نيابية وازنة جداً وحضور قوي داخل مجلس الوزراء؟ أليس ذلك أفضل من التشرذم الحاصل تقليدياً، والذي يتيح خرق الصف واستمرار استضعاف المكوّن المسيحي؟
من زاوية براغماتية، يبدو للبعض أنّ هذا الطرح واقعي. فلا مجال لإقامة «تكافؤ طائفي» مع المكوِّن الشيعي، في دولة الطوائف، إلّا باعتماد نموذج واحد. ويقول أصحاب «التفاهم»: «لا يعني ذلك القضاء على الأصوات الأخرى في البيئة المسيحية، بل استيعابها تحت جناح الثنائي».
ويضيف هؤلاء: «ألم تُضطر الأحزاب المسيحية في مرحلة معيّنة من الحرب اللبنانية إلى حسم حال التشرذم والتنازع داخل الصفوف المسيحية، وتنفيذ عملية «توحيد البندقية»، فكان ذلك حاجة ضرورية لتأسيس «القوات اللبنانية»، في موازاة الإطار السياسي الجامع الذي هو «الجبهة اللبنانية»؟
في نظرة سريعة يبدو هذا التحليل منطقياً. ولكن، يعتبر المسيحيون المعارضون لـ«اتّفاق معراب» أنّ توحيد البندقية كانت له ضروراته العسكرية في خلال الحرب، وأنّ الأمر يختلف خلال السلم وممارسة الحياة الديموقراطية. وأما الكلام على تجربة «الجبهة اللبنانية» كإطار مرجعي للقرار المسيحي فهو يناقض منطق الاحتكار الثنائي المسيحي الذي نصّ عليه «تفاهم معراب». والدليل أنّ أصحابه أبقوه «سرّياً للغاية».
عن هذه النقطة يقول أصحاب الاتفاق: «حاولنا أن نجمع كل القوى المسيحية، ولم نستبعد أحداً. ولكنّ البعض أراد أن يأخذ أكبر من حجمه الحقيقي بكثير. وعند هذه النقطة اختلفنا معه».
إذاً، «التيار» و«القوات» صمَّما «بضمير مرتاح» على تأسيس ثنائية مسيحية. وفي خلفية خطتهما نموذج الثنائية الشيعية. وفي عبارة أخرى، أرادا تقليد الثنائي الشيعي. ولهذه الغاية، قرّرا أن يخوضا الانتخابات النيابية معاً.
كما أكدا العمل على إنجاح العهد. ويُشكل الطرفان فريق عمل لتنسيق العهد سياساته تبعاً لنظرتهما معاً، من خلال المصالحة الوطنية ومكافحة الفساد وتحقيق الإصلاح، وتعزيز الدور المسيحي وصلاحيات رئيس الجمهورية.
أساساً، كثيرون لم ينخدعوا عند توقيع التفاهم في معراب، وقالوا: «إنه زواج مصلحة لا أكثر. فالـ«التيار» أراد الحصول على أوسع تغطية مسيحية لتحقيق الهدف الكبير، أي بلوغ الرئيس ميشال عون رئاسة الجمهورية. وأما «القوات» فاحتسبت الأثمان على المديَين القريب والبعيد: حضور قوي في المجلس والحكومة… وتأسيس للموقع الأقوى في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وساد اقتناع لدى العارفين بأنّ «تفاهم مار مخايل» هو الذي سيقود نهج «التيار» في عهد عون، لا «تفاهم معراب». فلا مجال لمقارنة الأرباح التي يجنيها من مراعاة مار مخايل بالخسائر التي يتكبّدها من مراعاة معراب.
وحتى التفاهم مع الحريري بقي «التيار» يوليه الأرجحيّة على «تفاهم معراب». وبدأ «القواتيون» يكتشفون باكراً أنّ هناك «قوطبة» على الأرباح التي وعدوا أنفسهم بها من «تفاهم معراب»، فباشروا الهجوم المضاد.
تقول مصادر «التيار»: «قبل موعد الانتخابات النيابية بأشهرعدة، أطلق جعجع رصاصة الرحمة على أيِّ تفاهمٍ انتخابي من خلال موقفه «الملغوم» إزاء التحالف مع الوزير جبران باسيل في البترون. فقد وضع علينا شروطاً قاسية في كل المناطق مقابل التحالف في البترون لاعتقاده أنّ فوز باسيل في تلك الدائرة مرهون بـ»القوات» وحدها».
وتضيف: «هذه الذهنية كشفت أنّ «القوات» تريد ابتزازنا وانتزاع أوراق القوة التي نملكها تمهيداً لفرض خياراتها. وقد تزامن ذلك مع حرب شعواء علينا في مجلس الوزراء وتشويه صورة وزرائنا. وهناك نيّة مبيّتة لإحباط العهد. ولذلك، وقع الخلاف معها وانتهى بالطلاق الانتخابي خلافاً لما نصّ عليه اتفاق معراب».
«القوات» تقول في هذا الشأن: «نعم، نحن نواجه وزراء «التيار» في مسائل محدّدة، ولكن بسبب النقص في الشفافية. إلّا أننا مع العهد. وقد نصّ تفاهم معراب على أنّ تقوية العهد تكون بالتزام الشفافية والإصلاح ومكافحة الفساد.
وهكذا، سقط «تفاهم معراب» بالشقّ المادي التنفيذي. وفي المرحلة المقبلة، يبدو أنّ الهوّة ستكون أكثرَ اتّساعاً. كذلك اهتزّ الشق المعنوي الذي يتعلق بـ«التطبيع» النفسي بين جماهير الحزبين ومحو آثار سنوات طويلة من الحقد والعداء الذي بلغ ذات يوم حدود التقاتل الدموي المدمّر.
وفيما الحزبان الشيعيان يُظهران تماسكاً متزايداً في الاستحقاقات الحاسمة، يَجزم ركن مسيحي أن «لا مجال لإنعاش تفاهم معراب، ولا حظوظ لقيام ثنائية مسيحية ناجحة على الطريقة الشيعية. فـ«الحزب» و«الحركة» لا يتنازعان على السلطة، وكل منهما يعرف حدوده ويلتزمها». ويضيف: «أيها القادة المسيحيون، لقد اختبرتم الثنائية وفشلتم. إنها ليست لكم، وشروطها أكبر من طموحاتكم الخاصة والشخصية. فاحذروا التقليد!».