خبر

إسرائيل أقل ثقة بجيشها وأكثر قلقاً على مستقبلها: كيف ولماذا؟

علي حيدر – الأخبار

 

إسرائيل تبقى أو لا تبقى؟ سؤال طرحه، غداة حرب تموز 2006، الإسرائيلي نفسه. حرب حفرت عميقاً، وعميقا جداً، بتداعياتها ونتائجها، في عقل وثقافة صنّاع القرار الإسرائيلي. للمرة الأولى منذ العام 1948، تتغير كل معادلات التعامل مع الجبهة الداخلية. عملياً، فرض حزب الله، بمنظومته الصاروخية واستمراريتها، أن تصبح هذه الجبهة جزءاً لا يتجزأ من أية حرب مقبلة

لم تقتصر نتائج وتداعيات حرب العام 2006، على معادلات الصراع، بل حفرت عميقاً أيضاً في الواقع الإسرائيلي بعناوينه المتعددة، السياسية والعسكرية والاستخبارية والجماهيرية. فاختلفت نظرة إسرائيل إلى نفسها، واختلفت نظرة الجمهور الإسرائيلي إلى قدرات جيشه، وانسحب الأمر نفسه على المستوى السياسي، بل إن الجيش سلّم بمجموعة من الحقائق، ترتب عليها تعديلات جذرية في نظريته الأمنية، والمفاهيم العملانية المنتزعة منها، وخططها العسكرية الهجومية والدفاعية، إضافة إلى خطط بناء القوة، وصولاً إلى تراجع سقوف طموحات مؤسسة القرار الإسرائيلي، بعد تلمسها نتائج تبدل معادلات الصراع.
خاضت إسرائيل طوال ستة عقود (إلى العام 2006) العديد من الحروب والعمليات العسكرية، وشهدت بيئتها الإقليمية أكثر من محطة تحول استراتيجي، ومع ذلك، لم تبادر إلى تعديل نظريتها الأمنية التي ارتكزت منذ العام 1953، على ثلاثة مداميك الردع والإنذار والحسم. المرة الوحيدة التي وجدت نفسها ملزمة بتعديلها كانت في أعقاب نتائج حرب العام 2006، حيث أوصت لجنة بلورة النظرية الأمنية برئاسة دان مريدور بإضافة مدماك رابع تحت عنوان «الدفاع/ حماية الجبهة الداخلية». يعود ذلك إلى أن حزب الله أدخل الجبهة الداخلية الإسرائيلية في معادلة الحرب، بكل ما للكلمة من معنى، وباتت كأي جبهة قتالية على الحدود، والنتيجة أنه لم يعد بإمكان إسرائيل أن تشن حروباً على دول وشعوب المنطقة، وتُبقي جبهتها الداخلية بمنأى عن هذه الحرب، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من جبهات القتال، وهو مفهوم نظّر له رئيس أركان الجيش الحالي، غادي ايزنكوت، قبل سنوات حول الفرق بين تلقي إسرائيل الصواريخ للمرة الأولى منذ العام 1948، وبين حالة حزب الله، الذي حوَّل استهداف العمق الإسرائيلي إلى خيار استراتيجي.

حقيقة مؤلمة وقائمة
منذ ذلك الحين، بدأ الجيش الإسرائيلي يبلور خططه العسكرية، وفق هذا المفهوم الجديد، وانطلقت في ضوء هذا المستجد مشاريع تطوير منظومات الدفاع عن الجبهة الداخلية، عبر إنتاج منظومات الاعتراض الصاروخي، القبة الحديدية ومقلاع داوود. وإجراء مناورات «نقطة تحول» المتواصلة، بهدف تدريب الجبهة الداخلية حول كيفية التعامل مع الصواريخ التي ستنهمر على الداخل الإسرائيلي خلال أي حرب تخوضها. وهو ما عكس تسليم المؤسسة الإسرائيلية، بشقيها السياسي والأمني، بهذا السيناريو التي باتت تتعامل معه على أنه حقيقة مؤلمة وقائمة.
على هذه الخلفية، تم إيراد الدفاع عن الجبهة الداخلية، في استراتيجية الجيش التي تم الكشف عنها رسمياً للمرة الأولى منذ ستة عقود، وذلك في العام 2015، كمدماك رابع للعقيدة الأمنية الإسرائيلية: الردع، الإنذار، الدفاع، والحسم.

لم يتم إدخال هذا البند ضمن هذه المبادئ، إلا في ضوء نتائج وعبر حرب العام 2006. حيث لم يتمكن جيش العدو من تدمير القدرات الصاروخية لحزب الله، وهو ما شكل ضربة قاسية جداً لأحد أهم المبادئ التي حكمت العقيدة الإسرائيلية وهي الحسم. العبر التي استخلصها جيش العدو من حرب العام 2006، وشكل لدراستها نحو 50 لجنة بحث وتحقيق، ارتكزت على حقيقة أن إسرائيل باتت في ضوء تجربة حزب الله، وما تلاها، أمام تحول جذري في البيئة العملياتية، استطاع بموجبه حزب الله، أن يشكل في آن سداً أمام جيش العدو، وأن يسلبه القدرة على الحسم، من خلال إبداع استراتيجية عسكرية، تقوم على الدمج بين نمطين قتاليين، حرب العصابات، وحرب الجيوش النظامية. وهو ما مكّنه (حزب الله) من خوض معركة دفاع عادة ما تكون من مهمات الجيوش النظامية، وفي الوقت عينه حافظ على هويته كحركة مقاومة.
هذا الإبداع الذي فرض على جيش العدو أن يعيد النظر في المفاهيم والمبادئ العسكرية التي استند إليها لمدة عقود، كان موضع دراسة الخبراء الإسرائيليين والغربيين في محاولة لفهم منطق حزب الله، واستراتيجيته العسكرية.

نقل المعركة للعمق الإسرائيلي
تسبب فشل العدو في حسم المعركة مع حزب الله، في العام 2006، في إطالة أمدها، إذ كان العدو يقدر أنها ستكون حاسمة وخاطفة، وهو ما شكل انقلاباً على مبدأ الحروب القصيرة والحاسمة. وهو أحد المبادئ التي تأسست عليها إسرائيل منذ خمسينات القرن الماضي.
في موازاة ذلك، كان يفترض أن يقوم الجيش الإسرائيلي بـ «نقل المعركة إلى أرض العدو»، باعتباره أحد أهم مبادئ المفهوم العملاني الذي يتبناه في الحروب. وهو ما يسمح له بإنتاج عمق استراتيجي يتيح له حماية جبهته الداخلية، ويخوض معاركه بعيداً منها، ويوفر له هامش مناورة عملياتية واسعة، مع وقت كاف لحسم المعركة ضد الطرف المقابل، أو على الأقل إنتاج حقائق ميدانية تساهم في فرض التغيير أو إملاء نتائج سياسية.
الدفاع عن الجبهة الداخلية في صلب استراتيجية الجيش الإسرائيلي التي كشف عنها رسمياً للمرة الأولى منذ 6 عقود

في المقابل، استطاع حزب الله نقل المعركة إلى العمق الإسرائيلي من خلال سلاح الصواريخ، الذي بقي يمطر الجبهة الداخلية إلى اليوم الأخير من حرب تموز. ولعل ذلك من أهم العبر والنتائج التي حضرت لدى القادة السياسيين والعسكريين. وهكذا تجلت مجموعة حقائق أجمع عليها القادة والخبراء في تل أبيب: إسرائيل فشلت في الحسم العسكري مع حزب الله، وفشلت في ردعه عن المبادرة والرد بما يتجاوز الخطوط الحمراء الإسرائيلية، ولم تؤد كل وسائل الإنذار التي يمتلكها العدو في تحقيق الغاية الرئيسية منها، ولم تتمكن إسرائيل من شن حرب خاطفة، ولا من حماية جبهتها الداخلية التي باتت تتعرض لتهديد لم يسبق أن واجهته منذ حرب العام 1948.
هذه الحقائق التي حفرت في وعي صناع القرار، وباتت حاضرة في خلفيات قراراتهم وخياراتهم، أدت أيضاً إلى أن القادة الإسرائيليين بعد حرب العام 2006، باتوا يسلمون بمحدودية القدرة على تحقيق طموحاتهم التي طالما راودتهم على مستوى المنطقة، من دون أن ينتقص ذلك من الإقرار بقدرات ترسانة العدو التدميرية الهائلة.

إسرائيل تبقى أو لا تبقى
في المحصلة، كان من الطبيعي أن تنتج هذه الحرب جيلاً من القادة العسكريين والسياسيين، المسكونين بمحدودية فعالية قدرات جيشهم. ومن هنا، بات من الطبيعي أن يصبح القادة الإسرائيليون أكثر «عقلانية» (في العدوان)، وأكثر إصغاء ــــ بالإجمال ــــ للرسائل التي تأتيهم من محور المقاومة، ولم يعد الحديث عن زعزعة ثقة الجمهور الإسرائيلي ومجمل القادة السياسيين والعسكريين بقدرات جيشهم مجرد تقدير نظري، وإنما باتت حقيقة لها منطلقاتها الواقعية، وتستند إلى تجارب عملية. وهو أمر ينطوي على قدر كبير من الخطورة إزاء حاضر إسرائيل ومستقبلها.
وإدراكاً لخطورة تداعيات هذه المفاهيم، رأى تقرير فينوغراد في الفقرة 63 من مقدمته «أن صحة مقولة «لا يوجد حل عسكري» تعني أن إسرائيل لن تستطيع البقاء في هذه المنطقة، ولن تستطيع الاستمرار فيها بسلام أو بهدوء، من دون أن تعتقد هي نفسها، فضلاً عن محيطها، بأن الجيش (الإسرائيلي) يمكن أن ينتصر، وأنه توجد لدى إسرائيل قيادة سياسية وعسكرية، وقدرات عسكرية ومناعة اجتماعية، تسمح لها بالردع، وأنها لدى الحاجة، ستكون قادرة على إلحاق الهزيمة بجيرانها الذين يريدون تصفيتها، ومنعهم ــــ حتى بالقوة ــــ من النجاح في تحقيق رغبتهم».
وتعبيراً عن مستوى القلق الذي بات مزروعاً في وعي القادة الإسرائيليين، أكد رئيس الدولة رؤوبين ريفلين، في الذكرى السنوية العاشرة لحرب 2006، أن الحرب المقبلة مع حزب الله ستكون قاسية، مشيراً إلى أنه في حال لم تخرج منها إسرائيل ويدها هي العليا، «لن تكون لديها فرصة ثانية». وقبله ايضا، سبق أن تخوف رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو (قبل أن يتولى منصبه وتحديداّ في الذكرى السنوية الاربعين لحرب العام 67) من مفاعيل وتداعيات حرب 2006، كتتويج للانتصارات في لبنان والمقاومة، بالقول إنه «منذ الانسحاب الأُحادي من لبنان (عام 2000)، ومروراً بالانسحاب الأُحادي من قطاع غزة (عام 2005)، وحالياً بعد حرب لبنان الثانية، انقلب الاتجاه، والآن من الواضح أن إسرائيل ليست دولة لا يمكن التغلب عليها. وعلامات الاستفهام عادت ترفرف فوق استمرار دولة إسرائيل، ليس فقط لدى الأعداء، بل أيضاً لدى الأصدقاء».