خبر

الزرارية… الشاهدة والشهيدة

ابراهيم بنوت – الأخبار

ليس حبّاً بذكر المجازر، لذاتها، وليس بدافع مِن مازوشيّة جماعيّة، كما ليس أنساً بانكسار لتأبيده… بل، وببساطة، لأنّ تلك الأشياء حصلت، ثم طُمِست أو تكاد. لأنّ ذاك الكيان، الإسرائيلي، الداخل اليوم في «صفقة عصر» لكسب شرعيّة، أخلاقيّة وأشياء أخرى، هو مَن فعل تلك المجازر، ولم يتنصّل مِنها… هذا إن كان للسيف أن يتنصّل مِن غمده. لأنّ هناك مِن ولد وشبّ على حياة، هنا، ولم يُحط بتلك الفظاعات علماً. لأنّ القاتل، الذي خرج عنده مَن أرّخ لأفعاله، نسبيّاً، فيما كان القتيل يُلملم ما بقي مِن حياة، ثم يُهمَل مِمّن اؤتمن على تلك الحياة. لأنّ هناك مَن قصّر، وهناك مَن استسهل، وهناك مَن ضحك أو بكى ورحل. لكلّ ذلك، وأكثر، نورد اليوم حكايات بعض تلك المجازر، على ضحالة ما في الأرشيف، فضلاً عن شحيح الذاكرة الشفويّة، بعد طول المدّة، ليعرف مَن لا يَعرف، اليوم، وليَعرف مَن سيأتي بعدنا، غداً، أنّ ذلك حصل، بعض مِمّا حصل، في تموز وأقرانه من أشهر وأيام وسنين وعقود.

«وينو رضا يا حاج وينو أحمد يا حاج!»… كلمات قالها الستيني أحمد علي يوسف ذات يوم من عام 1985، بعد انتهاء «الإرهاب» الإسرائيلي من مجزرته بحق أهالي بلدة الزرارية الجنوبية، في صبيحة الـحادي عشر من آذار من تلك السنة.
33 عاماً مرت على المذبحة، ولا تزال كلمات الحاج يوسف (90 سنة)، عالقة في أذهان أبناء هذه البلدة، يرددونها كلما جاءهم من يستطلع أخبار تلك المجزرة التي استشهد فيها 40 مواطناً، عزَّلاً ومقاتلين، من مختلف التوجهات الحزبية… أما السبب، فقد خطّه الإسرائيلي على جدران البلدة حينها: «انتقام جيش الدفاع الإسرائيلي لكل قطرة دمٍ يهودي». جملة تختزل رواية الإسرائيلي، أما الجنوبيون، فلهم روايتهم الشاهدة والشهيدة.
يستذكر مختار بلدة الزرارية محمد هاشم، (شقيق الشهيد نعمة هاشم الذي قاد عمليات نوعية ضد الاحتلال)، الأيام التي سبقت المجزرة، وهو الذي كان أسير «معتقل أنصار» حين ارتكابها. يروي كيف أنه بعد الضربات التي وجَّهها المقاومون للاحتلال، وقتل في إحداها واحد من أرفع ضباط المنطقة الشمالية الكولونيل إبراهام عاموس، قررت قيادة الاحتلال الانتقام من أهالي البلدة التي كانوا يعتبرونها واحدة من المعاقل الأساسية للمقاومة.
«الشهيد نعمة كان المطلوب رقم 1»، يوضح المختار وقد بانت على وجهه النحيل إمارات الفخر؛ يقول: «ذات مرة، سألت نعمة عن عدم إقدامه على الزواج وقد قارب سنه منتصف العشرين، فأجابني لن أتزوج ما دام هناك شبر من أرض الجنوب محتلاً». يسترسل «أبو عماد» في سرد سيرة الشهيد وما قام به بقرار ذاتي، بدءاً من التحشيد واستقطاب شبان البلدة، مروراً بتأمين السلاح من صيدا، وتحديداً من مخازن «الجبهة الشعبية ــــ القيادة العامة»، وصولاً للعملية المزدوجة التي نفذها مع اثنين من رفاقه، وقتل فيها عاموس ومعه عدد من جنود الاحتلال، بعد تفجير عبوتين على الطريق بين بلدتي الزرارية وارزاي. إلى جانب «القيادة العامة»، يوضح المهندس رياض الأسعد كيف كان يزود المناضلين بالسلاح لقتال إسرائيل، وهو الذي كان يقيم حينها في مدينة بيروت، منضوياً تحت لواء «حركة أمل»؛ يقول إنه كان يمتلك مخزناً كبيراً للأسلحة في ضهور الزرارية، يستعين فيه المقاومون لتنفيذ عملياتهم.
أما زاهي مروِّة، وهو أحد المناضلين الذين نجوا من المجزرة بعدما أصيب برصاصتين أثناء الاشتباك مع القوات المهاجمة وتم اعتقاله، فيتردد في الكلام عن تلك المجزرة؛ تردده متصل بشعوره بالإهمال الذي «كوفئ» به من قبل الدولة اللبنانية. يسأل مروِّة ونحن على عتبة باب منزله: «لماذا تريدون نبش قصص عفا عنها الزمن ومضى؟ راح اللي راح والباقي ما بيستاهل». لا يلبث أن يدعونا بعدها بكثير من الحرارة والترحيب للدخول إلى منزله. يشرح مروِّة تفاصيل تلك العملية المزدوجة التي نفذها مع الشهيد محمد علي محمود مروة ونعمة هاشم. «كانت الضربة الأقسى للعدو يوم 14 كانون الثاني من العام 1985، والتي أجبرت مجلس وزراء العدو المصغر (الكابينت) على الاجتماع في اليوم ذاته ليلاً، وإقرار خطة الانسحاب من صيدا باتجاه النبطية وقراها». يتوقف هنيهة للتدقيق بالتاريخ، يتمعن بصورة على هاتفه فيها نص مقابلة كان قد أجراها مع صحيفة «السفير» في ما مضى، يذكر فيها أن العملية تم تنفيذها في 14 شباط 1985. إنها خيانة الذاكرة، وأول ضحاياها مروِّة.
«كِنا خلَّصنا صلاة أني والحج وبدو يروح يشقِّ عالدجاجات بالقِن، وهيك منسمع دَب (صوت قصف) كتير قوي جايي من صوب بريقع (قرية تقع إلى الشمال من الزرارية)، ركضت عند الحاج بدي قله يضهر يشوف شو فيه، إلا وبيجي الصوت من برا شاب يصرخ الإسرائيلية فايتين عالضيعة»؛ تقول سيدة في منتصف الستين. تضيف وهي ترفض الإفصاح عن اسمها: «قال لي الحاج خليكي بالدار وتطلعيش لبرا، أني رايح ومش مطوِّل، لِك لِك ع هالحكي أني قلبي تقى مش حاملني والدَب عم يقوى، بعد شوي طلَّيت من الطاقة (نافذة صغيرة) وبلاقي اليهود والدبابات بالضيعة، والشباب ملقَّحين بالطرقات».

علي هاشم، ابن المختار (أبو عماد)، يقول إن نعمة كان يبيت ليلة الهجوم في منزل أخيه، بعدما كان قد عاد إلى القرية وشرع ينظم صفوف المقاومين بُعيد الانسحاب الإسرائيلي منها تنفيذاً لخطة الانسحاب من صيدا. يروي أن الشهيد كان قد أعياه المرض ليلة الهجوم/ المجزرة، ويقول: «كان الشهيد ينام في منزلي، وقبل أن يذهب إلى النوم أخبر زوجتي نيته تنفيذ عملية أسر جنود إسرائيليين يتمركزون في معتقل أنصار، في منتصف تلك الليلة، لمبادلتهم بأسرى لبنانيين أكون أنا من ضمنهم، غير أن معوقات أفشلت تنفيذ تلك العملية، فبقي نعمة في المنزل ولم يغادره».
يتابع: «قرابة السادسة صباحاً، بدأت القوات الإسرائيلية هجومها على القرية، أخذ نعمة قاذف بي 7، واتجه إلى أطراف القرية حيث كانت الاشتباكات دائرة مع المقاومين، انضم إلى اثنين من رفاقه، وبقيت الاشتباكات إلى أن نفدت الذخيرة، حينها حاولوا الانسحاب إلى أطراف البلدة، ووقعوا في الأسر».
يستذكر المختار «أبو عماد» كلام «المايجر ديب»، أحد ضباط الاستخبارات الإسرائيلية في مركز «الريجيه» في النبطية، تعود به الذاكرة إلى اللحظة التي توعده فيها بأنه إذا لم يكشف عن مكان تواري أخيه نعمة، فإن «قوات الدفاع ستعيده إليكم أشلاءً»؛ وهو ما حدث فعلاً، إذ إنه بعد اعتقال نعمة واقتياده إلى جهة مجهولة، وُجد النصف الأعلى من جسده في مكان تنفيذه العملية المزدوجة التي قتل فيها عاموس. لاحقاً، يتبين أنه تم إعدام نعمة بإطلاق قذيفة «بي 7» على جسده بُعيد اعتقاله.
يصف رياض الأسعد، الذي جمعته بالشهيد نعمة علاقة نضالية وثيقة، كيف كان للعملاء الأثر البارز في معركة الزرارية، يتحدث بكثير من الألم عن الخيانة التي تعرض لها المناضلون من قِبَل بعض أبناء البلدة، فهذا العميل «زرقط» قد جيء به للتعرف إلى المقاومين بالأسماء بعدما صمت الرصاص، مختبئاً خلف قناع ظن أنه سيمنع أعين الأهالي من التعرف إليه. لكن وكعادة الإسرائيلي، ترك «زرقط» لمصيره بعدما كُشفت هويته، فتقرر نفيه تحت طائلة التصفية في ما لو عاد.
العمليات ضد قوات الاحتلال، لم تكن وليدة قرار تنظيمي حزبي، فالبلدة لم تكن في حالة عسكرية منظمة، ولم يكن المناضلون فيها بوضعية الاستعداد القتالي التام، أقله تسليحاً. كان المقاتلون بالعشرات، ولا يملكون سوى القليل من رشاشات «كلاشينكوف» وبعض قاذفات الـ«بي 7» مع ذخائرها، فضلاً عن عدد من الألغام اللاصقة وصواريخ الـ«كاتيوشا» مخزنة في أطراف البلدة ومصدرها «القيادة العامة»، بالإضافة إلى عبوات بدائية الصنع، كان يتم تركيبها من المواد الكيميائية التي تتواجد في المبيدات المستخدمة زراعياً، وبعض المسامير وبقايا الحديد.
يروي زاهي مروة أنه قبل الهجوم كان قد تم زرع ثلاث عبوات على الطريق الواصل بين بريقع والزرارية، كإجراء احترازي تم اتخاذه تحسباً لأي اعتداء. وفي يوم المجزرة، وأثناء تقدم الدبابات من ناحية بريقع، كان يتخذ من إحدى النقاط المشرفة على الطريق مركزاً له، وحين حاول تفجير العبوات بالقوات المتقدمة، باءت محاولته بالفشل ولم تنفجر أياً منها نظراً لتضرر الأسلاك فيها، وبعد مرور وقت كانت فيه الدبابات قد شارفت على دخول البلدة، انفجرت إحداها من تلقاء نفسها، من دون أن تتسبب بأضرار لتلك القوات.
في المقابل، استقدمت قوات الاحتلال في «عمليتها الانتقامية» أكثر من 80 آلية مدرعة، توزعت بين ناقلات جند ودبابات نوع «ميركافا» وأكثر من 3 آلاف عسكري، تولوا اقتحام البلدة ومحاصرتها من جهات بلدات أنصار ــــ بريقع ــــ والقاسمية، عاونتهم 3 مروحيات أنزلت مجموعات من «الكوماندوس» في أطراف وتلال البلدة. سبق ذلك تمهيد مدفعي كثيف مركزه جهات بلدتي أنصار والنميرية. وحتى العاشرة صباحاً، كانت القوات المهاجمة قد أحكمت قبضتها على البلدة وأخمدت كل أصوات الرصاص، لتتظهر الصورة جلية عن مجزرة بكل ما للكلمة من معنى أُثكِلت بها بلدة الزرارية.
صورة المسن أبو نزيه، وقد طحن جسده داخل سيارة الـ«بيك أب»، حفرت عميقاً في ذاكرة أهل البلدة. يقول الأسعد إنه رأى الكثير من الفظائع التي ارتكبها الإسرائيلي حينها، ولكن لا مشهد يوازي مرور دبابات «الميركافا» بجنازيرها فوق «بيك أب» الخضار وأبو نزيه في داخله. الأجساد مهشّمة وقد قَطَّعت أوصالها الدبابات، سيارات محترقة لأناس اسودت حتى جماجمهم من حماوة النيران، وفي وادي نهر الليطاني 12 جثة لشباب كانوا قد اعتُقلوا وتم إعدامهم مقيدي الأيدي معصوبي العيون، فيما يروي آخرون كيف ذبح جنود الاحتلال عدداً من الشباب المقاوم، لتكون الزرارية بمجزرتها، الشاهدة على إرهاب الصهاينة، والشهيدة.
البلدة تستقبلك اليوم بتمثال أُريد له تخليد ذكرى شهداء لم يكونوا حكراً على أحد آنذاك، فهذا الجيش اللبناني ينعى شهيده الجندي محمد مؤذن ابن بلدة النميرية، وها هي «حركة أمل» تتعمَّد بـ24 شهيداً، وتلك «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» تتكلل بالشهيدين رضا مروة وحسن سرور إبن بلدة البازورية، بالإضافة إلى بقية مكونات النضال المقاوم في الجنوب آنذاك، حتى كانت مجزرة الزرارية، مجزرة بحق كل لبنان.

«يا معتر يا نعمة كمشوك»

حين انسحب الشهيد نعمة هاشم من منطقة المواجهة مع رفيقيه على اثر نفاد ذخيرتهم، توجهوا نحو نهر الليطاني، وأمام كثافة النيران التي استهدفتهم لجأوا إلى منزل قريب اختبأوا فيه تحت رزمة من الحطب، كل ذلك تحت أنظار فرقة رصد إسرائيلية كانت تتولى مراقبتهم من بعيد. بعدما أسر الثلاثة على أيدي مجموعة للاحتلال، وأثناء اقتيادهم، تفاجأت إحدى النسوة بنعمة مكبلاً، فما كان منها إلا أن توجهت إليه بالحديث بكثير من الانكسار: «يا معتر يا نعمة كمشوك (أمسكوا بك)، وأخيراً كمشوك». عندها، أدركت المجموعة الإسرائيلية بأنها اعتقلت نعمة، المناضل الذي سرق من أعين قادتها النوم لسنوات، ليتم اقتياده إلى ساحة البلدة عارياً، هناك تم جمع الأهالي. حدث هذا قبل أن ترتكب تلك القوات واحدة من أفظع مجازرها.