ربى منذر – الجمهورية
محلات صغيرة، لا صخب ظاهر فيها ولا ملامح لتفشّي المجون. تغشّك الأضواء التي تتزيّن بها واجهاتها وتلك الألوان التي توحي لك بما تحويه من متعة، تخال لوهلة أنك ستغتني ما ان دخلتها، وأنّ نسيان هموم الحياة سيترجم داخل جدرانها، لتفاجأ لاحقاً بأنها ليست سوى أوكار لنصب الناس واستدراجهم للإدمان عليها وعلى الكثير من الآفات التي تجد لنفسها ملاذاً فيها. إنها بين بيوتكم، الى جانب كنائسكم، بين محالكم التجارية ومعاهدكم، لا تُخجل أصحابها حرمة معبد ولا خصوصية مسكن، فكل ما يريدونه هو تنفيذ مآربهم “المافيوزية” داخل محلات للقمار إختاروا لبعضها مراكز في الدكوانة.
للقمار غير الشرعي في لبنان حكاية طويلة، فهنا يجد أصحاب الضمائر المفقودة بيئة حاضنة لنشر فسادهم الذي يحميه أصحاب النفوذ السياسي، فلا يردعهم قانون ولا تحركات يقيمها البعض ولا حتى شمع أحمر تقفل فيه محلاتهم لمدة، فهم يعلمون أنهم في لبنان حيث الفساد مُحلّل وحيث يمكن لأوكارهم أن تدرّ عليهم المال بعدما أيقنوا كيفية استقطاب زبائنهم: مخدرات، دعارة، وفوز للأموال في أول تجربة مع القمار، والنتيجة: “زبون جديد عِلق”.
قد تكون منطقة الدكوانة، الطامحة لأن تصبح “مدينة نموذجية” والتي باتت تتمتع بالمعايير اللازمة لهذا الغرض، إحدى الضحايا الأكبر لهذا الملف إذ تحوي نحو 11 محلاً للقمار، تتمركز بين البيوت والكنائس والمحال التجارية، عدا عن أنه يدخل إليها بعض القاصرين وينتشر فيها حاملو السلاح ومروّجو المخدرات الذين يستفيدون من حال بعض الخاسرين ويغرونهم ببضائعهم “لَيرَوّقوا راسُن”، هذا إذا تجاهلنا بائعات الهوى اللواتي تقفن داخل هذه الأوكار وخارجها، أي أمام بوابات المباني، حسب شهود عيان.
حرب مفتوحة
“متل ما وعدت الأهالي، حربنا عَ محلات القمار غير الشرعي مفتوحة لأجل غير مسمّى”. باقتضاب وبلغة حازمة يحسم رئيس بلدية الدكوانة المحامي أنطوان شختورة موقفه، هو الذي فتح هذه الحرب منذ عام 2011، ويشير لـ”الجمهورية” الى “أننا كنّا قد أقفلنا هذه المحال في شهر كانون الأول 2017، لكن قبل الانتخابات عادت وفتحت أبوابها بعد صدور قرار من مجلس شورى الدولة بوقف التنفيذ لحين بَتّ الدعوى”، مضيفاً: “لكنني كما وعدتُ المواطنين، سأحارب كل ما يضرّ العائلات والمجتمع، كوني كرئيس بلدية، أُعتبر مسؤولاً عن الأخلاق ضمن نطاقي، سأكمل دعوتي بمساعدة القضاء الإداري والأهالي المتضررين من ألعاب القمار التي يحاول البعض تسميتها “ألعاب تسلية” والدعارة والمخدرات”.
وغَمز شختورة الى “وجود نفوذ سياسي في قضية إعادة فتح هذه الأوكار”، وقال: “يجهل البعض أنّ هذه المحال هي أوكار للأسلحة، وأنّ حياة روّادها بخطر، خصوصاً إذا فقد حاملو هذه الأسلحة إدراكهم نتيجة السكر والمخدرات. وما إعادة فتح الحرب عليهم إلا نتيجة تعرّض أحد الأشخاص لإطلاق نار أمام إحدى المحال والشريط المصوّر بحوزتي”.
أمّا للإنتخابات في لبنان فطعم آخر، إذ يصبح الفساد في هذه الفترة مشرّعاً بشكل علني لكسب الأصوات، وقد تكون هذه الصورة تجلّت مع كشف شختورة أنّ أحد الوزراء السابقين أكد له أنّ إعادة فتح هذه المحلات مرتبط بفترة الإنتخابات على أن تقفل بعدها، وهو ما لم يحصل حتى الآن، فمن أصل 11 محلاً أقفل عام 2017 أعيد فتحها كلها وما زالت حتى اليوم تصطاد الزبائن وتعلّقهم في صنارتها.
إذاً، إنها «السلطة» أيها اللبنانيون، السلطة التي يلهث خلفها الزعماء، فيشرّعون الرذيلة ويسنّون قوانين للفساد، أمّا التحايل على الدستور فهو ما يتقنونه، إذ إنّ التراخيص التي تملكها هذه المحال تصبح تلقائياً غير قانونية لأنّ مواقعها لا تبعد 100 متر كخط نار عن دور العبادة والمباني السكنية والمعاهد كما ينص القانون، إلّا أن ذلك دفع أصحاب النفوذ للتشاطر على القانون وحساب هذه الـ100 متر من خلال عداد السرعة في السيارة.
مصالح مالية وسياسية
لا شك في أنّ هذا القطاع يرتبط بشبكة واسعة من المصالح يتداخل فيها السياسي بالمالي، وفي وقت يمنح فيه القانون الرقم 417 شركة كازينو لبنان حقاً حصرياً باستثمار ألعاب القمار، رفع الكازينو دعوى أمام مجلس شورى الدولة عام 2012 مطالباً بتعويض يزيد على 100 مليون دولار، او إعادة التفاوض على العقود الموقّعة مع الدولة التي تنتهي عام 2026، فالكازينو هو الجهة الرسمية التي أعطيت الحق الحصري في استثمار ألعاب القمار، وفي هذا الإطار فهي حتماً لا تشهد أيّاً من مظاهر الفسق التي تشهدها محلات القمار غير الشرعي، بل على العكس تشكّل مصدراً للسياحة في لبنان ودعم الاقتصاد.
الحرب إذاً أعلنت، وأحدٌ لن يسمح لأصحاب الفساد بتحويل الدكوانة معقلاً للمجون، فأهل هذه البلدة الذين يعملون من الفجر حتى المساء لتأمين لقمة عيشهم هم من يشرّفونها ويمثّلونها، فلا الضغط السياسي ولا بعض الفاسدين في الدولة سيتسبّبون في استسلام أهل منطقة استطاعوا في الأمس طرد من حاول احتلال بلدتهم وكانوا مثالاً للمقاومة الحقيقية، فكيف بالأحرى اليوم، عندما امتدّ الخطر إلى عائلاتهم وأبنائهم…