محمد نزال – الأخبار
ليس حبّاً بذكر المجازر، لذاتها، وليس بدافع مِن مازوشيّة جماعيّة، كما ليس أنساً بانكسار لتأبيده… بل، وببساطة، لأنّ تلك الأشياء حصلت، ثم طُمِست أو تكاد. لأنّ ذاك الكيان، الإسرائيلي، الداخل اليوم في «صفقة عصر» لكسب شرعيّة، أخلاقيّة وأشياء أخرى، هو مَن فعل تلك المجازر، ولم يتنصّل مِنها… هذا إن كان للسيف أن يتنصّل مِن غمده. لأنّ هناك مِن ولد وشبّ على حياة، هنا، ولم يُحط بتلك الفظاعات علماً. لأنّ القاتل، الذي خرج عنده مَن أرّخ لأفعاله، نسبيّاً، فيما كان القتيل يُلملم ما بقي مِن حياة، ثم يُهمَل مِمّن أؤتمن على تلك الحياة. لأنّ هناك مَن قصّر، وهناك مَن استسهل، وهناك مَن ضحك أو بكى ورحل. لكلّ ذلك، وأكثر، نورد اليوم حكايات بعض تلك المجازر، على ضحالة ما في الأرشيف، فضلاً عن شحيح الذاكرة الشفويّة، بعد طول المدّة، ليعرف مَن لا يَعرف، اليوم، وليَعرف مَن سيأتي بعدنا، غداً، أنّ ذلك حصل، بعض مِمّا حصل، في تموز وأقرانه من أشهر وأيام وسنين وعقود.
لم يكن الفرار مِن حولا إلى شقرا كافياً لنجاة العائلة. نجت فاطمة طاهر، صحيح، لكنّها خسرت طفلها الرضيع. كان اسمه أيّوب. لو ظلّ حيّاً، إلى اليوم، لكان عمره 70 عاماً. اسمه ليس ضمن لائحة شهداء المجزرة، إذ موته، خارج القرية، شيء مِن قبيل «الأضرار الجانبيّة». أصلاً، مَن يَعلم عدد شهدائها يقيناً؟ لا أحد. هم «نحو» كذا، هم «تقريباً» كذا، وهكذا. في النصب التذكاري عند مدخل حولا، اليوم، هم نحو 70 شخصاً. أمّا إيلان بابيه، المؤّرخ الإسرائيلي، فقد «أعدمت القوّات اليهوديّة أكثر مِن 80 قرويّاً في حولا وحدها». لعلّ فاطمة لم تكن سمعت بالـ «هاغاناه». ربما سمعت بهم لاحقاً. أيّ فرق سيُحدثه لو علمت، تلك الفلاّحة الأمّ المُرضعة، أنّ مَن أمر بقتل والدها محمود طاهر، مِن جملة المقتولين، هو شموئيل لاهيس؟ لكن مَن أرّخ لاحقاً لما حصل؟ لن تجد، إلى اليوم، أرشيفاً لبنانيّاً يُشير إلى لاهيس المذكور. إنّه قائد الكتيبة الصهيونيّة التي ارتكبت مجزرة حولا عام 1948. بعد عامين، أنجبت فاطمة ابنة، وسيلة، وقصّت عليها مراراً «بعض» ما جرى. وسيلة اليوم تروي لـ «الأخبار».
الله أعلم بعددهم
لا أحد يَعلم اليوم، مِن بين الأحياء، أين دفنت فاطمة رضيعها. أفي حولا، قريتها، أم في شقرا، القرية المجاورة التي فرّت إليها. كان الفرار عبر «الوعر» على الأقدام… حيث مات أيّوب. أمّا والدها، ففي حولا قطعاً، حيث دُمِلَت أجساد الجمع، تحت الدار الذي فُجِّر عليهم… بعد «رشّهم». كانوا ما بين فتى وكهل وشيخ، ويُحكى أنّ الأجساد رُفِعَت، لاحقاً، ووضعت في روضة تُعرَف اليوم باسمهم. «روضة شهداء مجزرة حولا». كان حسين رزق، أبو فهد، أحد الناجين القلّة. رحل قبل نحو 13 عاماً. رحل وقد فاض به الملل، لكثرة ما روى المجزرة للناس، بلا جدوى. لم تأتِ إليه «الدولة» مرّة لتسمع حكايته.
ظلّ يحكي، وهو على فراش موته، حكاية إصابته ونزفه وخروجه مِن تحت الردم، ثم زحفه إلى خارج القرية، وكيف أنّ الرصاص كان يُطارده. كان يعتب على «الدولة» التي لم تتكفّل أقلّه بعلاجه. آنذاك، كان هنالك دولة فتيّة في لبنان، دولة لها استقلالها ورئيسها وعسكرها و»جندرمة» وما شاكل. على مدى العقود الماضية كان مِن أهل البلدة مَن يُطالب بأن تُصبح المجزرة، كحكاية وذكرى، ضمن المنهج المدرسي الرسمي. كانوا ينشدون أن يُعترَف بالموت الذي حلّ بهم. بلا جدوى. ظلّت، إلى حدّ بعيد، حكاية منسيّة. بعد تلك المجزرة، يُرسل مَن هو بمثابة شيخ مشايخ جبل عامل، السيّد عبد الحسين شرف الدين، رسالة إلى رئيس الجمهورية بشارة الخوري يقول فيها: «وحسبنا الآن نكبة جبل عامل في حدوده المتاحة، ودمائه المباحة، وقراه وقد صيح فيها نبهاً، وأطفاله وقد تأوّدت رعباً، وشبابه وقد استحرّ بهم الفتك، إلى ما هنالك مِن هلاك الحرث والزرع (…)، فإذا لم يكن مِن قدرة على الحماية، أفليس مِن طاقة على الرعاية».
بعض مِن «حيرام»
كانت «عمليّة حيرام» قد أوشكت على الانتهاء. القرار الصهيوني، بعد النكبة، خلاصته: «ألا يبقى الجليل عربيّاً». لا بأس أن تصل العمليّة (حيرام) إلى صور، إلى مدينة الملك الفينيقي، الذي ما بينه وسليمان، الملك الأورشليمي، كما في التوراة، أكثر مِن شجر أرز وأعمق مِن أساس هيكل. ما بال سعاد يعقوب، الطفلة يومذاك، وكلّ هذه الأساطير المؤسّسة؟ لا تزال سعاد على قيد الحياة. أصبحت ثمانينيّة. تحكي عن موقعة «مقام العبّاد» التي سبقت المجزرة. هناك، عند الحدود الجديدة، عند الحدّ الفاصل بين القرية اللبنانيّة وفلسطين. مناوشات حصلت بين «جيش الإنقاذ» العربي والعصابات الصهيونيّة الغازية. بعض أهل القرية علموا أنّ الصهاينة سيدخلون عليهم، عاجلاً أم آجلاً، فغادر نفر منهم وبقي كثيرون. ثقتهم أنّ «جيش الإنقاذ» معهم، يحميهم، وقد فتحوا له بيوتهم وضروع أبقارهم وبيض دجاجهم، بل قاتلوا معهم قبل ذلك في المالكيّة… وسقط مِنهم شهيد.
تتحدّث سعاد، اليوم، عن «الخائن» أبو داوود. كان قياديّاً في «جيش الإنقاذ» العربي. لا تعرف اسمه الحقيقي، لا تفاصيل، هو أبو داوود فقط. أخلى القرية، واعداً أهلها أنّه سيعود، ومعه جيش أكبر وعتاد أوفر. اقترب الصهاينة جنوباً. بدأت تصل أخبارهم. دبّ الذعر. مجازر الجليل، المتنقلة مِن قرية إلى أخرى، كان قد وصل صداها إلى حولا. لا سلاح في القرية. فجراً، تلوح الكوفيّة العربيّة مِن جهة قرية مركبا شمالاً. هذا «جيش الإنقاذ» قد عاد، زغردت النسوة والرجال على تأهبهم الأخير. اقتربوا أكثر. تذكر الراويّة نداء أحدهم: «لباس، هاو عرب، لباس» (لباس بالمحكيّة هناك بمعنى أنّ الوضع آمن). جُهّز لهم الحليب واللحم وما جادت به الأرض. ثمّ صدمة الموت: إنّهم ليسوا عرباً! لقد تنكّروا، وتبدأ الهتافات: «يهود، يهود، اهربوا». فزعة عكسيّة، في كلّ اتجاه، وكأنّه الطاعون قد وصل. في الوديان والتلال، تحت الأشجار، وقد خلت المنازل. هذا طفل يبكي، ذاك أب يهتف، وعجوز لا يعرف ما يجري. حوصرت القرية. لا مهرب الآن. وقعت الواقعة. فرز عمري، فاحتجاز، فإدارة وجوه إلى الجدران، فإطلاق نار، وأخيراً تفجير… فمجزرة حولا. حصل هذا في 31 تشرين الأول عام 1948. لِمَ كان الصهاينة، في أكثر مجازرهم الجماعيّة تلك، يُديرون وجوه الضحايا قبل تصفيتهم؟ للوجه قوّة مِن نوع ما، تحفر في الذاكرة، ولعيون أصحاب الأرض سطوة، خصوصاً في نظراتهم الأخيرة، والسُرّاق الآن يُدركون ذلك.
لاهيس، هذا اسمه
فعلها الملازم أوّل شموئيل لاهيس في حولا، وهو قائد الكتيبة ومعه رقيب مِن الفرقة 22 مِن «لواء كارملي» الصهيوني. لِمَ فعلتها؟ يسأله زميله الضابط دوف يرميا، الذي شارك بدوره في مجازر «تطهير عرقي» في أماكن أخرى (بحسب المؤّرخ بابيه في «التطهير العرقي في فلسطين»)، فكان جوابه: الانتقام لقتل أعزّ أصدقائه في «مجزرة مصفاة نفط حيفا». لولا يرميا، الذي رفع تقريره بما فعله زميله، لما عرف أحد بهذه التفاصيل. لكان طمس الحديث، على قلّته، عن تلك المجزرة. بحسب إفادة يرميا، شيء ما أزعجه في تلك المجزرة، وهو الجزّار مثل زميله، إنّما ذلك ربّما لأنّها حصلت بـ»دم بارد» أكثر مِن اللازم. لاهيس أراد أن ينتقم، فبالغ قليلاً، ولم يرتكب «وصمة عار» بحسب ما خلص إليه القضاء الإسرائيلي لاحقاً. أراد أن ينتقم لمقتل أعزّ أصدقائه في حيفا، فقط. رهيب مستوى الوقاحة التي يصلها قاتل. قبل عام مِن مجزرة حولا كان صديقه، الصهيوني في عصابة «الأرغون» الشهيرة، يقتل مع آخرين 6 فلسطينيين ويجرح العشرات بإلقاء قنابل يدويّة على تجمّع للعمّال في حيفا. العمّال الفلسطينيّون، بعد المقتلة، ردّوا الكرّة. قُتِل صديق لاهيس. هكذا قُتِل.
آنذاك، آزرت «الهاغاناه» أختها «الأرغون» وارتكبت مذبحة في قرية بلد الشيخ «يُقال» أنّ الضحايا مِن الفلسطينيين كانوا بالمئات. كلّ هذا لم يكفِ لاهيس، كان لا بدّ مِن حولا بعد. نُشر هذا، بتفصيل أكثر، في الإعلام الإسرائيلي أواخر سبعينات القرن الماضي. كان قد أصبح مِن أرشيفهم المتاح بعضه. يأتي مؤرّخ إسرائيلي آخر، هو بيني موريس، على ذكر لاهيس وكيف كانت نهايته في كتابه «مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين». يقول: «جرت محاكمة لاهيس وإدانته مِن قبل محكمة عسكريّة في العام 1949، وحُكم عليه بالسجن مدّة 7 أعوام، لكن مع استئناف الحكم خفضت العقوبة إلى عام واحد، قضاه طليقاً، ولاحقاً بناء على توصية مِن بن غوريون (وزير الحرب) أصدر الرئيس الإسرائيلي إسحاق بن تسفي عفواً عنه». أكثر مِن ذلك، أصبح ضابط المجزرة بعد ذلك محامياً، قبل أن ينال مكافأته الكبرى ويصبح المدير العام لـ»الوكالة اليهوديّة».
أجداد وآباء وأحفاد
ينقل موريس في تأريخه، عن قائد «لواء كارملي» الذي اشتهر بدوره في «عملية حيرام» موشيه كارميل، ما كتبه بعد عام مِن مجازر تلك العمليّة: «إنّهم يهجرون قرى أجدادهم التي ولدوا فيها، ويذهبون إلى المنفى. النساء، الأطفال، الرضّع، الحمير، كلّ شيء يتحرّك في صمت وحزن، باتجاه الشمال (إلى العمق في لبنان)… مِن دون أن ينظروا يميناً أو يساراً. الزوجة لا تجد زوجها، الطفل لا يجد والده، لا أحد يعلم هدف رحلته. العديد مِن الممتلكات الشخصيّة مبعثرة على الطرق، فكلّما ساروا لمسافة أطول زاد التعب – فيقومون بالتخلّص مما حاولوا إنقاذه وهم يأخذون طريق المنفى.
فجأة، بدا كلّ شيء لا قيمة له، وغير ضروري، وغير مهم مقارنة بالخوف وضرورة إنقاذ الحياة والجسد». ويتابع كارميل، الذي أصبح لاحقاً وزيراً ومِن كبار شخصيّات الدولة، كاتباً: «لقد رأيت ولداً يبلغ الثامنة مِن العمر يمشي باتجاه الشمال، يدفع أمامه حمارين طوال الطريق. لقد قُتِل كل مِن والده وأخيه وفقد أمّه. كما رأيت سيّدة تحمل رضيعاً يبلغ مِن العمر أسبوعين على ذراعها الأيمن، وآخر مِن عمره على ذراعها الأيسر، في حين تتبعها طفلة في الرابعة تتشبّث بثوبها. وفجأة، شاهدت على جانب الطريق رجلاً طويل القامة، منحنياً، يحفر بأظافر أصابعه في الأرض الصلبة. توقّفت ورأيت حفرة صغيرة في الأرض، تحت شجرة زيتون، تم شقّها بالأيدي، بأظافر اليد… وضع فيها الرجل جسدَ رضيع مات بين ذراعي أمّه، وغطّاه بالأرض والحجارة الصغيرة. رأيت فتى عمره 16 سنة، جالساً عند جانب الطريق، عارياً تماماً، وابتسم عند مرور سيّارتنا».
ينقل موريس عن أهارون سيزلينغ، القيادي الصهيوني وأحد الموقّعين على «وثيقة استقلال إسرائيل» في عام المجازر ذاك، أنّه بعد اطلاعه على أحد التقارير المهولة قال: «لم أتمكّن مِن النوم طوال الليل، هذا أمر يُحدّد طبيعة الأمّة، اليهود أيضاً ارتكبوا أعمالاً نازيّة». ليس لحولا وأخواتها، في جنوب الجليل وشماله، مَن يحكي عن «هولوكوست» مِن نوع خاص. ليس لما حصل في هذه البلاد كلود لانزمان ليوثّق «الشوا» فيها. عموماً، عاش كارميل مديداً بعد مجازره. مات عام 2003. إيجابيّة عمره المديد هذا أنّه رأى أبناء أولئك الحفاة، وأحفادهم، يصفعون وجوه قومه، ويُطاردون جماجمهم، مِن قرية إلى أخرى، لتكون النتيجة بعد نحو نصف قرن رحلة معاكسة للغزاة جنوباً. رحل قائد لواء المجازر، الذي رأى، بعدما رأى، وهو يعلم أن الفصل الأخيرة مِن الحكاية لم يُكتب بعد.
نجا، فسرقوا غنمته
كان أحمد يحيى الحاج شاباً عام 1948. نجا مِن مجزرة حولا، لسبب بسيط، إذ كان الطوق الذي ضُرب حول القرية لا يشمل مكان وجوده يومها. لم يكن في حياته سوى راعٍ وفلاحٍ. فرّ إلى قرية مجاورة. عمره اليوم نحو 95 سنة. بالكاد يُمكنه الكلام. يقول: «عملولن خندق، دبّوا (هدموا) الأوضة (الغرفة) عليهم. إجوا متنكرين مِن صوب مركبا والسلوقي. في يهوديّة تقول بدّي اقضي على كل الناس هون، قال متلها (قُتلَ لَهَا) يهودي هون بالعبّاد (أعلى موقع في القرية). أنا قعدت بين الكروم، البدو انسحبوا، وقتها قلت لبيي بكرا اليهود رح يجوا، هول ولا أخبث، عملوا فينا عمل بربري». ذاكرة الحاج لا تزال تعمل، وإن بسرد غير منتظم، فهكذا تتوالى الصور البعيدة في رأسه. يحكي، لاحقاً، حكاية سرقة الصهاينة لغنمته: «اجوا بالدبابة، كنت زارع شي 20 دونم قمح، بيننا وبين ميس، داسوهم وقالولي يا مخرّب. قلتلهم انتو المخربين يا أخباث. كان عندي شلعة غنم، عم نرعى، إجا اليهود وطوقونا وضربوني بكعب البارودة على راسي. تركوني بس أخدوا غنمة معهم على موقع المنارة».
سعاد وزينب وغمرة
ليس سهلاً على سعاد يعقوب أن «تنكش» في ذاكرتها بعمق 70 عاماً. كانت طفلة، إنّما تذكر، وبعض اللمحات لم تفارقها. ترويها كأنّها حدثت قبل بضع سنوات. كان عمرها نحو 10 سنوات. لا أحد هنا، مِن الطاعنين في السن، يعلم عمره الحقيقي. في تلك الأيّام، كان مألوفاً ألا يُسجّل المواليد بعد الولادة. لم تكن الدولة، كفكرة، قد وصلت بتمامها إلى هذا الريف البعيد عن المركز. عاد جمع مِن نسوة حولا إلى القرية، عددهن 40 تقريباً، عُدنَ مِن شقرا ومجدل سلم، بعد أيّام على المجزرة. كان الصهاينة هناك. احتلوا المكان. رفضوا السماح لهن بدخول منازلهن. هنّ ما عدن إلا لجلب الطعام، حنطة وحبوب، لإطعام أطفالهن. حصل صدام، تلاسن، عندها احتجز الغزاة فتاتين داخل أحد المنازل، وطلبوا مِن الجميع المغادرة. بعد أخذ ورد، ولا نتيجة، تروي سعاد كيف أنّ إحدى النسوة أمسكت بثياب ضابط مُسلّح، هزّته، قائلة: «ما منرجع إلا والبنتين معنا، أو بقتلك هون». لا تذكر الراوية اسم تلك المرأة، إنّما صورتها في البال، لم تغب. ساعات مِن الانتظار، نساء القرية في وجه صهاينة مدجّجين بأحدث أسلحة تلك الحقبة. قرّر الضابط فتح الباب، فلم يجد الفتاتين (اسمهما غمرة وزينب)، كانتا خرجتا مِن فجوة في الجدار، وابتعدتا. جدران بيوت تلك الحقبة أكثرها مِن الطين والقش. جنّ جنون الضابط، راح يصرخ، الفتاتان كانتا قد أصبحتا خارج القرية. تقول سعاد إنّ ذاك الضابط «اختار أجمل صبيتين قدامه». صديقة لسعاد، زينب حسين، وأثناء استماعنا للرواية، ذكّرتها بزينب أخرى، تلك التي «أخذها اليهود». هزّت الأولى برأسها. تلك الفتاة، في حادثة لاحقة، وبينما هي تعمل في الأرض «إجوا اليهود وخطفوها وأخدوها معهم». هذه ما عاد أحد سمع خبراً عنها. تبخّرت. هذا لغز دارت حوله الكثير مِن الأقاويل في القرية. لزينب حسين، رفيقة طفولة سعاد، حصّتها مِن المجزرة إيّاها: «قتلوا أمّي هون، بهيدا البيت، قصفته طيارة لأنو مرّة عالجنا فيه جريح مِن جيش الإنقاذ». كان اسم أمّها خديجة حسن ياسين. كيف تلقّى ذاك الجيل «صدمة الحداثة» بأن تحلّق فيهم كومة مِن الحديد، تُطلق النار من السماء وتقتُل، في زمن كانت وسائل التنقّل في تلك القرى لا تزيد عن حمير وجمال وأقدام!
فجأة تنطلق ذاكرة سعاد إلى أبيات مِن قصيدة بالمحكيّة ألقاها أحد أبناء قرية حولا، بعد المجزرة، يشكو فيها إهمال الدولة التي ينتمون إليها، بحكم التقسيم، وفيها: «يا حادي الركب عنّا نشّر الأخباري، خبّر ملوك العرب أهل الدواويني، وإن كان قصدك يا ساعي تكشف الأسرار، أقصد لحولا وبعد ما تشوف عزّيني، أوقف بتلالها وتمعّن الأفكار، والقى الضحايا على شمالك واليميني… نحن شكينا الحال ببيروت، وما إسمع إلا إنّو سكوت، بكرا بيجي لكل طفل بسكوت، بكرا بيجي لكل شخص كبّوت… بكرا وبعد بكرا بيستحيل الزمن ذكرى».