خبر

الغضب ريح تطفئ سراج العقل...

كتب المفكر والاعلامي والديبلوماسي الراحل واجد دوماني في العديد من الصحف والمجلات، وأغنى صفحاتها بما كتب عن الفكر والأدب والثقافة والإعلام والسياسة والصحة والإنسان وشؤون الحياة، بأسلوب يعتمد العمق والبساطة والسلاسة والأناقة في آن، وينبع من غنى الثقافة وغزارة الإطلاع وعمق التجارب.

بعض مقالاته يعود إلى الستينيات، ومع ذلك فإن القارىء يتفاعل معها وكأنها كتبت اليوم، ولقد اختار"لبنان 24" إعادة نشر هذا المقال، وعنوانه: الغضب ريح تطفئ سراج العقل...:

الغضب ريح تطفئ سراج العقل...

من منا لا يغضب، ولا يثور ولا يزعل، فالحياة مليئة بكل ما يغضب ويثير ويزعل.. فالغضب ظاهرة طبيعية في الإنسان، والزعل حالة طبيعية للإنسان. ولكن، (انتبه إلى لكن)، إني أتحدث هنا عن الغضب الآخر، الغضب الذي يتخطى حدوده. ويتجاوز خطوطه الحمراء، ويتحول إلى غضب غير طبيعي، ويأخذ حجماً آخر، وحالة أخرى هي حالة انعدام الوزن، ثم تنعكس على سلوك الفرد، فيسقط منه كثيراً من الأشياء وفي طليعة هذه الأشياء وأثمنها وأغلاها وأقدسها، العقل.

وهذا العقل لا يسقط، ولا يشل، ولا يندحر، ولا ينكسر، إلا إذا عصفت به ريح من الغضب الشديد، وقعت عليه كالصاعقة، عندها ينطفئ نور هذا العقل وتتحول الدنيا إلى ظلام، والغاضب لا يعود يرى إلا الأشياء غير السليمة، وغير المنطقية، وغير الصحيحة، فيفقد الإنسان وقاره، ويخسر شيئاً غير قليل من احترام الآخرين له، إذ يكتشفون فيه الوجه الآخر، الوجه البشع، الوجه المتوحش في الإنسان، وجه الغابة، من الوجه الذي كان خافياً عن الأنظار، متخفياً وراء أستار كثيفة من المظاهر.

كم من الغضب الشديد كان سبباً في إفشال كثير من الناس في حياتهم التجارية والسياسية والاجتماعية؟

كم من العلاقات الوثيقة، والصلات القوية، انقطعت أمام سوط الغضب؟! وعكس ذلك.

كم من المشاكل تحل عن طريق السيطرة على الذات، والقوة على مراقبة الأعصاب خوفاً، وبلغت أهدافها؟!

فالطموح لا يتحقق عن طريق غضبة جارفة، وموقف متوتر وثورة نفسية فالطموحات التي تحققت عبر التاريخ كان وراءها أناس توفرت في أشخاصهم مزايا الحلم والرصانة وهدوء الأعصاب.

إذا كانت مشكلات العصر قد تفاقمت بشكل أصبحت الأعصاب فيها مهيأة للغضب ومرشحة في كل لحظة للثورة وبالتالي سيدفع العقل المميز، والفكر الرصين ثمناً لهذه الحالة أخذ الأطباء النفسانيون في أميركا وأوروبا، يركزون من خلال نصائحهم وإرشاداتهم على ضرورة مواجهة الضغوط التي بات عصرنا يفرزها على الناس، مواجهتها بالهدوء، والتدبر، والتعقل، وهذا الهدوء لا يتحقق إلا عن طريق ممارسة رياضات وتمارين روحية خاصة وكانت (اليوغا) إحدى هذه الرياضات، كما كان ممارسة رياضة (التأمل) المركزة إحدى الوسائل التي تؤدي إلى ضبط فتيلة (الغضب) وكبسولة الثورة.

إن كثيراً من الأبطال في التاريخ على صعيد السياسة، والاجتماع والفن والعسكرية لم يحققوا بطولاتهم إلا بعد أن اكتشفوا حقيقة ذواتهم، وأدركوا بشيء من العمق الدور المحطم الذي يمكن أن يلعبه الغضب الجارف في سلوكهم، الذي من شأنه أن يحول دون نجاحهم، لأن العقل عندما تنطفئ جذوته بفعل سياط الغضب الشديد تتوقف قدرته على تمييز الأمور، وتحديد معالم الأشياء المطلوبة عندها يقع الإنسان في الظلام.

ولعل "معاوية بن أبـي سفيان" كان أحد هؤلاء الحكام الذين عرف عنهم الحلم والقدرة على ضبط الأعصاب، وكانت كلمته الشهيرة شعاراً اتخذه في معاملته للآخرين (لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت فإن أرخوها شددتها وإن شدوها أرخيتها) فالحفاظ على الشعرة بين الإنسان والإنسان ليس الأمر السهل بل يتطلب قدرة خاصة في العقل وقوة في ضبط الأعصاب وكفاءة متميزة في السيطرة على النزوات الجامحة في الإنسان، إذ كم من قضية عادلة خسرها صاحبها بسبب غضب جامح وثورة نفسية استبدت به، وتسلطت عليه فأطفأت منه نور عقله.

إن أعظم رسالة في التاريخ استطاع الرسول الأعظم أن ينشرها في الناس، وبين الناس، وفي مجتمع جاهل إنما كان للعقل والحكمة والصبر والمصابرة نصيب كبير وعامل أساسي في كل الانتصارات التي حققها الرسول الأعظم وقد عبّر عنها في عبارته التالية (عدت من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس) وكان الغضب عندما يشتد في نفس الرسول الأعظم كان يستعين بالله عليه وما يلبث هذا الغضب إلا ويهدأ فتثوب نفسه إليه.

"اللهم أبعد عنا غضباً يطفئ سراج عقولنا وامنحنا من لدنك قوة الصبر ونعمة الحلم..".

أخبار متعلقة :