صحيفة الاخبار
ماذا يريد أولئك الذين قال فيهم الزعيم كمال جنبلاط: اعطوهم سلاحاً فيقتل بعضهم بعضاً أولاً قبل أن يصوبوه إلى الأعداء؟
وهم أنفسهم الذين قال فيهم وليد، ابن كمال، إنهم «جنس عاطل» ويعني بذلك جماعات مسلحة منهم غامرت بالجبل ـــ وطنهم الأساسي وملجأهم وصانع هويتهم ـــ وقد صعدوا إليه وراء العدو الإسرائيلي، وانتهت بهم جولات القتال مهجَّرين بعشرات الآلاف، ولاجئين في ظل الحراب الإسرائيلية في دير القمر مع قائدهم سمير جعجع الذي حاول إنقاذهم، وقد صُدم عندما اكتشف أن معركة الجبل كانت فخاً إسرائيلياً نصب للمسيحيين من أجل كسر شوكتهم برصيد موجع: 500 ألف مهجّر، وأكثر من ١٥٠٠ ضحية، وتدمير ٢٥٠ قرية و٣٨٠ مركزاً دينياً و٦٠ ألف مسكن.
وقال فيهم وليد جنبلاط هذا الكلام الموجع، والمرفوض من أكثريتهم، بعدما شاهدهم يتقاتلون في ما بينهم، بعد تلك المِحنة، ويدمّرون ما كان سلم في مناطقهم في وقت عض الدروز على جرحهم وتوحدوا.
لم يتعلموا حرفاً واحداً
لعل ما دفع جنبلاط الابن إلى إطلاق عبارة «جنس عاطل» وعلى فريق من المسيحيين ومجتمعهم ــــ وحتى مرجعياتهم ــــ هو أنهم لم يتعلموا حرفاً واحداً من دروس التاريخـ لا سيما تقديس أرض الجبل التي جاؤوها خائفين مذعورين، مع أقليات أخرى بينها الدروز، باحثين عن ملجأ وطعام وأمان. وقد وفّرت لهم هذه الأرض كل ما احتاجوا إليه. كما أنتج التزاوج بين الأرض والحريّة الهوية التي كانوا في حاجة إليها، وهم الذين قدموا إلى جبل لبنان من إنطاكية وقورش، حيث محبسة مار مارون ومكان تنسكه، بهوية تركية، ليكتسبوا في ما بعد الهوية السورية باعتبارهم رعايا سوريا الكبرى، لتحل عليهم بعد الاستقلال نعمة الهوية اللبنانية، بعدما أصبحوا داخل كيان معترف به عربياً ودولياً، مع أنهم لم يفكروا يوماً في إنشاء دولة، ولا يزالون إلى الآن يصارعون فكرة الدولة مكتفين بإقامة سلطة وتقاسم الغنائم مع الآخرين.
ولولا تدخل الدول الكبرى بعد أحداث ١٨٦٠ لبقي المسيحيون في الجبل يتقاتلون مع شركائهم الدروز الذين تعلموا من التاريخ أكثر من سواهم.
الأرض: الوطن والكيان والهوية
ويشمل الحديث عن «الجنس العاطل» استهانة المسيحيين بالأرض التي رواها أجدادهم، على فترات، بدمائهم، ثم أودعوها رفات أهلهم فأصبحت مقدسة، كما جعلوها أساس «الوطن النهائي»، الشعار – التحدي الذي رفعوه في وجه المسلمين عموماً، سواء المطالبين منهم بالوحدة مع سوريا أو بالوحدة العربية.
وكان الآباتي بولس نعمان اختصر المسيحية اللبنانية، في مذكراته، بأنها «إنسان وأرض وحرية»، في حين قال البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، في ذكرى مرور 1600 سنة على وفاة مار مارون، إن «المارونية كتبت تاريخها الحقيقي الأول، لا في كتب من ورق، بل في كتاب أرضها إذ جعلتها أرضاً للعطاء والعبادة». وإن الموارنة «مهما فعلوا في العالم يبقون في حاجة إلى الأرض التي تجسّد هويتهم الخاصة التي تربطهم بتاريخهم العريق»، وهي في نظرهم «الوطن والكيان (…) والذين يتخلون عن أرضهم من طريق بيعها، خصوصاً من غير اللبنانيين، إنما ينتهكون حرمة وطنهم وبخاصة أرواح الذين يرقدون في طبقاتها».
وآخر من نبّه المسيحيين إلى خطورة إضاعتهم البوصلة الأرضية كان العماد ميشال عون في كلمة وجهها إلى «مؤتمر الطاقة الاغترابية» السنة الماضية، وحذّر فيها من بيع اللبنانيين أراضيهم وسلوك طريق الهجرة «بحثاً عن وطن جديد»، وقال: «هذا ناقوس خطر يدق». وتساءل: «لماذا يسعى أبناؤنا إلى وطن بديل، ويضحون بهويتهم ويتوسلون هوية أخرى لا يربطهم بها شيء؟». وقال: «إن الإجابات الصادقة عن هذه التساؤلات تبدأ ببناء الدولة».
هل الرئيس القوي هو المطلوب اليوم؟
والسؤال الآن هو: هل الرئيس المسيحي القوي، و«الجمهورية القوية»، و«لبنان القوي» هو المثال الذي من شأنه أن يجعل المسيحي يتمسك بأرضه، ويرفض أي هوية أو جنسية أخرى؟
لقد طالب المسيحيون برئيس قوي، وقانون للانتخاب يحقق لهم التمثيل الصحيح، فكان لهم ما أرادوا.
والآن ماذا يريد «الأقوياء» من المسيحيين؟ لقد شبعوا «قتالاً» إبان المعارك الانتخابية، ولو امتلكوا سلاحاً لكان «الدم بلغ الركب».
ألا يكفيهم النظر اليوم إلى التضامن والتوافق القائمين داخل الطائفة الشيعية التي تحولت من رمز للمحرومين إلى جيش مقاوم هزم واحداً من أعتى جيوش العالم، وحركة أسسها الأمام موسى الصدر قبل أربعة عقود يتربّع رئيسها منذ عام ١٩٩٢ على واحدة من أهم المؤسسات الدستورية، وأعني بها مجلس النواب، وقد انتخب قائد الحركة قبل أيام رئيساً له وللمرة السادسة؟
لقد رفع الرئيس ميشال عون شعار الدولة القوية، وهذه يحتاج بناؤها إلى تكاتف وتضامن لا إلى تناتش وتقاسم. والمسيحيون، وخصوصاً الأقوياء منهم، مدعوون إلى دعم هذا المشروع عن اقتناع وليس في مقابل أثمان وأسلاب ومغانم، بحيث يشكّل رسالة إلى الذين يفكرون في بيع الأرض والبحث عن هوية بديلة لعدم ثقتهم بالحكم، وليأسهم من إمكان قيام دولة يحكمها القانون وتسودها المساواة ويتحقق فيها الاستقرار الذي يجذب الاستثمار الذي ينتج بدوره فرص عمل للشباب، ويكون جواباً عن تساؤل الرئيس عون: لماذا يبيع المسيحيون الأرض ويبحثون عن هوية جديدة، بعدما تحولوا مثل لوح ثلج، يتناقصون يومياً وقد باتوا دون الثلث بين اللبنانيين.
فهل يكون تأليف الحكومة حقل اختبار للأنانيات المسيحية فتتقدم المصلحة العامة ومشروع بناء الدولة القوية، على الشهوات والأطماع وتقاسم السلطة حصصاً وكأنها رزق سائب؟
إننا في انتظار أن يقدم المسيحيون، و«الجمهوريون» منهم في الدرجة الأولى لأنهم أصحاب ذاكرة طافحة بالشهادة والتضحية، المثال الذي يقتدى في العمل لبناء دولة قوية، مستقلة، سيدة، متحررة من إملاءات الخارج، تحل مكان السلطة – المزرعة التي أقامها اللبنانيون، مسيحيين ومسلمين، منذ أنشأ الفرنسيون لنا «دولة لبنان الكبير». هذه السلطة التي أفقرت البلد وأرهقته بالديون بعدما أغرقته بالفساد.
علماً أن المسيحيين كانوا اتهموا المسلمين بالخروج على الميثاق الوطني، «لا شرق ولا غرب»، عندما ارتبط فريق منهم بالسعودية وآخر بإيران، في حين تخلَّى المسيحيون عن الاعتماد على الغرب.
ويُخشى اليوم أن يقوم بين المسيحيين من يتذرّع بالخروج الإسلامي على الميثاق لينسج علاقات من خارج سلطة الدولة مع مرجعيات خارجية وتحديداً سعودية وخليجية خدمة لمصالح هذه الدول على حساب المصلحة اللبنانية في مقابل دعم مالي وامتيازات.