إيلي الفرزلي – الأخبار
هو نصف إنجاز حققه المجلس الدستوري، أمس، بإبطاله المادة المتعلقة بالتسويات الضريبية في قانون الموازنة العامة، لمخالفتها مبدأ المساواة بين المواطنين. كما أبطل 6 مواد أخرى في القانون، بينها المادة 49 المتعلقة بإعطاء الأجنبي الذي يتملك شقة حق الحصول على الإقامة في لبنان، لكنه لم يتجرأ على إبطال الموازنة برمتها، رغم مخالفتها المادة 87 من الدستور التي تنص على وجوب موافقة مجلس النواب على الحسابات النهائية للإدارة المالية (قطع الحساب) قبل إقرار الموازنة.
في تبرير المجلس الدستوري للقرار الذي اتخذه بالأكثرية بإبطال 7 مواد من قانون موازنة عام 2018، وباعتراض نائب رئيسه طارق زيادة، ارتباك واضح، فالحسابات المالية هي موجب دستوري، بحسب المادة 87 من الدستور، لا يمكن التغاضي عنه. أكثر من ذلك يقول المجلس في قراره: «إن إقرار الموازنة بدون قطع الحساب يعطل دور وصلاحيات ومسؤوليات السلطة الاشتراعية وديوان المحاسبة ويعطّل الرقابة المالية المناطة بموجب الدستور بالسلطتين الاشتراعية والقضائية وينتهك مبدأ الفصل بين السلطات ويحوّل السلطة الاشتراعية إلى أداة بيد السلطة التنفيذية، فتصبح عاجزة عن ممارسة رقابة جدية عليها». كما يشير بوضوح إلى أن «غياب قطع الحساب يؤدي إلى غياب الشفافية في جبابة المال وإنفاقه، وبالتالي التشكيك في صدقية الموازنة العامة وتنفيذها، كما يؤدي إلى فتح الباب واسعاً أمام تفشّي الفساد».
تلك الفقرة تفتح الباب أمام تقدير حجم الفساد الذي استشرى على مدى 23 عاماً، 12 منها لم يقر فيها قطع الحساب (2004 ــــ 2016)، وعشرة أعوام (1993 ــــ 2003) أقرّ فيها قطع الحساب مع تحفّظ ديوان المحاسبة، إضافة إلى 12 عاماً لم تقرّ فيها الموازنة برمتها (2005 ــــ 2016).
يكمل المجلس الدستوري في سرد عواقب عدم إقرار قطع الحساب، مكرراً الكثير من العبارات الواردة في الطعن المقدم من الكتائب والنواب سيرج طورسركسيان، ايلي عون، جيلبرت زوين، يوسف خليل ودوري شمعون، والذي أعدّته المحامية لارا سعادة. يقول إن الاستمرار في غياب قطع الحساب وغياب الموازنة العامة هو انتهاك فاضح للدستور وتجاوز لقرار المجلس الدستوري رقم 5/2017، لكنه في فقرة مفصلية يبدأ بتبرير قرار يتناقض مع كل ما سبق. يشير إلى أنه لا يجوز أن تحول الحالة الشاذة التي خلقت بسبب تقاعس مجلس النواب عن القيام بدوره الأساس في مراقبة الحكومة وإلزامها بوضع قطع حساب سنوي وإعداد موازنة عامة سنوية، دون وضع موازنة عامة نظراً إلى أهميتها، ولأنه لا غنى للدولة عنها. لتبرير قراره، يذهب المجلس الدستوري إلى اعتبار أن الدستور يولي موقعاً مميزاً للموازنة، وأن الانتظام المالي الذي هو ركيزة الانتظام العام لا يتحقق إلا في إطار الموازنة العامة، إضافة إلى ذهابه إلى التقليل من شأن قطع الحساب، بالإشارة إلى أنه اعتمد من أجل تحديد الخلل في تنفيذ موازنة سابقة والاسترشاد به لوضع موازنة لسنة قادمة. وبالتالي، «اعتمد وضع قطع الحساب من أجل الموازنة ولم تعتمد الموازنة من أجل قطع الحساب».
الاستنتاج السابق يتناقض مع ما ذهب إليه المجلس نفسه في الإشارة إلى أن غياب قطع الحساب يؤدي إلى غياب الشفافية وإلى تفشّي الفساد وإلى تعطيل الرقابة المالية. وبالتالي، عن أي انتظام مالي يمكن الحديث بدون رقابة وشفافية. يذهب المجلس الدستوري في قراره إلى تخطي صلب دوره الناظر في دستورية القوانين، ويعطي لنفسه حق تقدير المصلحة العامة لقبول الطعن في هذا القانون أو ذاك، وبالتالي تقدير الانعكاسات السلبية لعدم إقرار الموازنة على الدولة أو على المالية العامة، كما جاء في قراره. لكن، من يؤكد أن الضرر الناتج من غياب قطع الحساب ليس مشابهاً للضرر الناتج من غياب الموازنة نفسها؟
المجلس النيابي أقرّ الموازنة في عامَي 2017 و2018، فهل ثمة من يستطيع أن يعلن أن الانتظام صار صفة المالية العامة وأن وضع الدولة صار أفضل من السنوات التي سبقتها بلا موازنة؟ ربما يكون العكس هو الصحيح. فلو كان قطع الحساب موجوداً خلال السنوات التي سبقت، لكانت الهيئات الرقابية تمكنت من معرفة مصير الأموال الطائلة التي صرفت بدون موازنة، خاصة أن الكل يدرك، ولا سيما من أقرّ الموازنتين، أنهما كانتا شكليتين، وأقرّتا خارج المهل الدستورية. فالأولى، أقرّت في نهاية السنة المالية، والثانية أقرت على عجل تلبية لمتطلبات باريس 4 لا حرصاً على الانتظام المالي. ثم إذا كان المجلس أشار في متن قراره إلى أن غياب قطع الحساب يؤدي إلى التشكيك في صدقية الموازنة العامة وتنفيذها، فكيف يعود ويناقض نفسه بتبريره نشر الموازنة بدون قطع الحساب بحجة الانتظام المالي؟ أي انتظام مالي هذا الذي يكون مقترناً بموازنة مشكوك في صدقيتها؟
طارق زيادة: المصلحة العامة مبدأ ثانوي في وجود النص الدستوري
لا داعي للتحليل أكثر. الإجابة تأتي من داخل المجلس، وتحديداً من نائب رئيسه الذي خالف قرار الأكثرية. فقد جاء في «أسباب المخالفة» المرفقة بالقرار، تأكيد من طارق زيادة أن المهمة الأساسية للمجلس الدستوري هي مراقبة النص الدستوري الصريح والواضح والقاطع والملزم. كما يشير إلى أن الاجتهاد الدستوري جعل من المصلحة العامة مبدأ ثانوياً مكملاً في غياب النص، بمعنى أنه لا يؤخد بها مع وجود هذا النص.
يذهب زيادة إلى التأكيد أن الحالة الشاذة التي أشار إليها القرار لتبرير عدم الأخذ بالنص الدستوري الملزم بوضع قطع الحساب قبل نشر الموازنة هي تعبير غامض لم يرد في العلم والاجتهاد الدستوريين، وهو تعبير آخر عن الظروف الاستثنائية (كالحرب والزلازل والفيضانات)، لا يؤخذ بها مع وجود النص، وهي غير متوافرة أصلاً.
يختم زيادة تقريره بتأكيد لا لبس فيه أن الحالة الشاذة التي أشارت إليها الأكثرية في المجلس لا تبرر مخالفة الدستور، وهو لذلك مقتنع، خلافاً لرأي زملائه، بأن مخالفة المادة 87 من الدستور تؤدي إلى إبطال قانون الموازنة برمّته.
القرار الحالي يذكّر بقرار مشابه اتخذه المجلس إبان التمديد الثاني للمجلس النيابي. حينها قدم مطولات في تأكيد مخالفة التمديد للدستور، إلا أنه عاد وبرره بالظروف الاستثنائية، داعياً إلى إجراء الانتخابات في أسرع وقت ممكن. أمس أيضاً رفض المجلس إبطال القانون بحجة المصلحة العامة، لكنّ أعضاءه أرادوا أن يحفظوا ماء الوجه، فدعوا، دون تباطؤ، إلى الخروج من الحالة الشاذة ووضع قطع حساب وفق القواعد الدستورية وقانون المحاسبة العمومية، لعودة المالية العامة إلى الانتظام، ووضع حدّ لتسيّب المال العام وضبط الواردات والنفقات وتقليص العجز في الموازنة العامة وممارسة رقابة فاعلة على تنفيذ الموازنة.
بري: قرار «الدستوري» فريد من نوعه
علّق رئيس مجلس النواب نبيه بري على قرار المجلس الدستوري بإبطال مواد مطعون فيها في قانون موازنة 2018، وبينها المادة 49 ومواد تعتبر من «فرسان الموازنة»، بالقول لـ«الأخبار» إن القرار «فريد من نوعه». وأيّد موقف المجلس من مواد تصنّف في خانة «فرسان الموازنة»، والتي يجب أن تصدر بقوانين عادية وليس في قانون الموازنة، وأيّد أيضاً موقف المجلس من موضوع تسوية المخالفات، مشيراً إلى إمكان أن يكون لها لاحقاً قانونٌ خاصٌ.