عماد مرمل – الجمهورية
محاسبة.. نفضة.. تطهير.. انتفاضة.. تصفية حسابات.. تعدّدت التوصيفات لِما يجري في تيار «المستقبل»، لكن الأكيد هو أنّ الرئيس سعد الحريري قلبَ الطاولة على رؤوسٍ «مستقبليّة» كان يُعتقد حتى الأمس القريب أنّها محميّة ومحصّنة.
ولم تشفع صِلة القربى في حماية حتى ابن عمّة رئيس الحكومة نادر الحريري الذي شملته «الحركة التصحيحية» ولفَظته أمواجها إلى خارج أسوار «بيت الوسط»، مع نوع من المراعاة في الشكل فقط، تمثّلت في إعطاء إقصائه طابعَ «الاستقالة الطوعية» من باب حفظِ الحدّ الأدنى من كرامته الشخصية وماء وجهه، خلافاً للآخرين الذين تمّت إقالتهم بطريقة علنية.
وقد فتحت تدابير الحريري «المباغتة» البابَ أمام سيل مِن المقاربات التي ذهبَ بعضها في الخلط بين المزاح والجدّية الى حدّ اعتبار ما حصَل بمثابة محاكاة حريرية لسلوكِ وليّ العهد السعودي الامير محمد بن سلمان ضد خصومه قبل أشهر، لم يكن ينقصها سوى اختيار فندق في العاصمة، على وزن فندق «الريتز» في السعودية، لتوزيع «المشتبَه فيهم» على غرفِه ووضعِهم قيد الإقامة الجبرية.
ليس سهلاً أو عادياً أن يتّخذ رئيس تيار «المستقبل» خلال يومين قرارات متلاحقة بحلّ هيئة شؤون الانتخابات ومنسّقيات بيروت والبقاع الغربي وراشيا والبقاع الاوسط والكورة وزغرتا في التيار، ثمّ بإقالة ماهر أبو الخدود ومسؤول الماكينة الانتخابية وسام الحريري، بالتزامن مع صدور بيان يُعلن عن استقالة نادر الحريري من مركزه كمدير لمكتب الرئيس سعد الحريري.
وإذا كانت استقالة نادر هي الأكثر التباساً والأقوى دويّاً، ولا تزال منذ الإعلان عنها عرضةً لتفسيرات شتّى ومتضاربة، إلّا أنّ الإجراءات العقابية الأُخرى تبدو واضحةً في سياقها ودوافعها، لجهة محاسبةِ المسؤولين عن النتائج الباهتة التي حقّقها «المستقبل» في عددٍ من الدوائر الانتخابية، خصوصاً في بيروت والبقاعين الغربي والأوسط، مع الإشارة الى أنّ حصيلة معركة العاصمة كانت الأشد إيلاماً بالنسبة الى رئيس الحكومة الذي حصَلت لائحته في الدائرة الثانية على ستّة مقاعد فقط من أصل 11، وهو معدّل لا يتناسب مع حسابات الحريري ورهاناته التي سبقت بوح صناديقِ الاقتراع بمكنوناتها، خصوصاً أنه يعلم أنّ لبيروت رمزية خاصة على أكثر من مستوى.
يَشعر الحريري بأنه فعلَ شخصياً أقصى ما يمكن فِعله لتحقيق أفضلِ نتيجة في بيروت، فهو غامرَ بأمنِه وتنقّلَ بين الأحياء وزار العائلات وحضَّ الناخبين بسلوكه الشعبي على التصويت بكثافة، لكنّه اكتشف أنّ الماكينة الانتخابية لتياره لم تتلقّف جيّداً هذه الدينامية، ولم تستطِع تحويل الحماسة التي كان يُقابل بها أصواتاً في صناديق الاقتراع. لقد بدا الحريري وكأنه سبقَ ماكينته الانتخابية، وفارقُ المسافةِ بينهما ملأته بعضُ اللوائح المنافسة.
ولكنّ المفارقة هنا، أنّ قرار إقالة رموز في الحملة الانتخابية لـ»المستقبل» وحلّ بعضِ منسقياته المناطقية، أتى بالتزامن مع احتفال النصر الذي أقامه الحريري في «بيت الوسط»، ما يَعني إقراراً ضمنياً منه بأنّ النصر لم يكن حقيقياً أو كافياً، وإلّا فإنّ الأصول كانت تقضي بتكريم المساهمين في صناعته، لا بمعاقبتهم كما حصل.
ومع ذلك، يُسجَّل للحريري في المقابل شجاعته في إجراء مراجعة نقدية لتجربة تياره خلال الانتخابات قبل أن يجفّ الحبر على أصابع المقترعين، وصولاً الى محاسبة المقصّرين ومرتكِبي الأخطاء علانيةً، مِن دون التوقّفِ عند بعض الحسابات الحزبية أو الشخصية.
وهكذا تدحرجت أحجار «الدومينو» تباعاً، من حلّ المنسقيات المتخاذلة الى إقالة المنسّق العام للانتخابات وسام الحريري ومدير دائرة المتابعة في مكتب رئيس «المستقبل» ماهر أبو الخدود الذي أعفيَ من مهمّاته في التيار.
وإعفاء أبو الخدود تحديداً يحمل دلالات عدة، كما يؤكّد العارفون، إذ إنّ الرجل كان محسوباً على نادر الحريري ثمّ تحوّلَ إلى «ظلّ» الوزير نهاد المشنوق في وزارة الداخلية انطلاقاً من كونه مستشارَه الأوّل، وبالتالي فإنّ «رذاذ» قرار إقصائه قد يصيب المشنوقَ بنحو أو بآخر.
ويَعتبر أحد القريبين من كواليس «المستقبل» أنّ أبو الخدود كان واعداً في انطلاقته، وهو معروف عنه أنّه «حربوق» وديناميكي في ما خصّ إنجاز الخدمات والمعاملات، بل إنّ هناك من قال لسعد وأحمد الحريري مرّةً: «إستنسخوا خمسةً مِن هذا الرجل، وتصبح كلّ الأمور الإجرائية في «المستقبل» منتظمة».
ولكنّ صاحب هذه الرواية يشير الى أنّ «البطر» أصابَ لاحقاً أبو الخدود الذي فقد توازنَه بعدما اتّسَع نفوذه ودورُه أكثر من اللزوم، إلى درجة أنّ بعض نواب «المستقبل» كانوا ينادونه «معالي الوزير»، بحيث بات يشكّل مع الوقت عبئاً على الحريري، إلى أن طفح كيله بعد الالتباسات التي رافقت الانتخابات.
أمّا استقالة نادر الحريري فهي بالتأكيد أشدّ تعقيداً، وفكُّ كلِّ ألغازِها ربّما يحتاج إلى بعض الوقت.
ما مِن تفسير قاطِع وحاسم بعد لملابسات خروجه أو إخراجه الدراماتيكي من محيط رئيس الحكومة بين ليلة وضحاها، إلّا أنّ الاجتهادات تتمحور حول الاحتمالات الآتية:
• الأوّل، يربط الاستقالة بتحميل رئيس الحكومة ابن عمّتِه جزءاً كبيراً من المسؤولية عن نتائج «المستقبل» في الانتخابات، كونه ساهمَ في نسجِ خيوط اللوائح وإدارة الحملة الانتخابية وماكينتها.
• الثاني، يضع الاستقالة في خانة الاستجابة لإرادة الحلفاء الإقليميين الذين لم يكونوا راضين عن سلوك نادر وأدواره، من مساهمته في إنتاج التفاهم السياسي والرئاسي مع «التيار الوطني الحر» إلى بصماته في التحرّك لإعادة رئيس الحكومة من السعودية بعد استقالته الشهيرة. ومِن غير المستبعَد أيضاً أن يكون سعد الحريري قد دفعَ في اتّجاه استقالة نادر لتوظيفِها واستثمارها في مجالات عدة لدى حلفائه الإقليميين.
أمّا الاحتمال الآخر، فلا يَستبعد وجود أسباب ماليّة خلف انكفاء نادر، تتعلّق بصفقات واستثمارات معيّنة.
وفيما اتّخذ سعد الحريري قراراً بتكليف محمّد منيمنة مسؤوليات مدير مكتبه، يؤكد العارفون أنّ منيمنة هو «تقني» الطابع، وأنّ البعد البروتوكولي والإجرائي سيطغى على دوره، خلافاً لِما كان عليه الأمر مع نادر.
لا سِرّ يَصمد طويلاً في لبنان. والأيام المقبلة كفيلة بتوضيح حقيقة انقلاب الحريري على تياره!