خبر

صمتٌ انتخابي لا ينتظر أحداً يكسره

نقولا ناصيف – الأخبار

 

تكاد تكون الساعات الـ36 من الصمت الانتخابي، منذ منتصف ليل أمس حتى إقفال صناديق الاقتراع مساء غد، هي الوقت الأكثر تعقلاً في الحملات الانتخابية المستعرة منذ شهرين خلَوَا. لا المرشحون الكبار والصغار يصرخون، ولا الناخبون يصفقون

منذ استُحدث بند الصمت الانتخابي في قانون 2008، وأُخضعت له انتخابات 2009، وأُعيد تكريسه في القانون الحالي للانتخاب، نُظر إليه بعناية خاصة مقدار ما هو بند قانوني مُلزم. لم يسبق قبل عام 2008 أن كان مثيل له في أيٍّ من قوانين الانتخاب المتعاقبة، مع أن قانون 1951 أعطى المجنسين حق الاقتراع بانقضاء خمس سنوات، وقانون 1953 فرض غرامة مالية على الناخب الذي يمتنع عن الاقتراع وأجاز اقتراع المرأة، وقانون 1957 أدرج تزكية المقعد للمرة الأولى، وقانون 1960 أحدث العازل.
عُدّ بند الصمت الانتخابي أكثر من إجراء جديد يدخل في باب إصلاحات محدثة. هو الحدّ الفاصل بعد كل ما قاله المرشحون ولوائحهم واستنفدوه، ما يقتضي أن يقرره عندئذ الناخبون قبل الوصول إلى صناديق الاقتراع في تحديد خياراتهم. قد يكون من الوهم الاعتقاد بإمكان فصل أولئك عن هؤلاء، سواء على مستوى الحضّ على الاقتراع بكثافة، أو شدّ العصب المذهبي في كل اتجاه، كلٌّ في مواجهة الآخر، أو تأكيد الالتزام السياسي والطائفي والتخويف الذي يبثه زعماء اللوائح في ناخبيهم بعضهم حيال البعض الآخر، أو الإغراء بالمال السياسي كأحد عناصر عدّة شغل الانتخابات النيابية تقليدياً وتاريخياً في لبنان.

مع كل ما قيل في حملات الأسابيع المنصرمة، تدور انتخابات 2018 على عناوين صغيرة مستهلكة غير ذات جدوى. ليس فيها فريقا 8 و14 آذار كي يقال إن الاستحقاق هو استفتاء شعبي على أحدهما. ليس فيها صراع على الغالبية النيابية، شأن انتخابات 2005 و2009، كي يقال إن كلا الفريقين يتسابقان إليها من أجل أن يحكم أحدهما البلاد بمفرده. ليس فيها تواطؤ مشابه لــ«الاتفاق الرباعي» عام 2005 ـ على وفرة انقسامهما آنذاك ـ يقايض فيه سلاح حزب الله بمنح قوى 14 آذار الغالبية. ليس فيها طلاق حاسم بين الفريقين على غرار ما أوحيا في انتخابات 2009. ليس فيها خصوصاً شركاء دوليون أو إقليميون على نحو انتخابات 2005 تحت السهر المباشر للسفيرين جيفري فيلتمان وبرنار إيمييه، ونحو انتخابات 2009 بدعم مالي لا ينضب من السعودية. انتخابات لبنانية بأدوات محلية فحسب، أباحت لنفسها كل وسائل التشهير والاتهامات والطعن المتبادل بلا ظهير خارجي يبرّرها، كي تخرج من الاستحقاق في الغداة كأن 6 أيار كان يوماً عادياً كسواه.
لم يكن استغلال اسم الرئيس رفيق الحريري كافياً كي يحتّم الاستئثار بالزعامة. ولا وهم تكوين غالبية نيابية من حول رئيس الجمهورية يغري ويُصدّق أنه يقلب التوازن الداخلي رأساً على عقب. ولا شعار المقاومة بدوره مرضٍ لإغفال شكاوى الناخبين وتذمرهم. عناوين كهذه قبضت بقوة على استحقاقي 2005 و2009، إلا أنها باتت قليلة الأهمية الآن.

صمت الساعات القليلة المقبلة ليس عرضة لمفاجأة تضع الانتخابات في مسار غير محسوب. يتصرّف الأفرقاء على أنهم مقبلون على نهار مُنهك، محشو بمال سياسي، لكن أيضاً تحريك الشارع لرفع الاقتراع إلى نسب قياسية غير مسبوقة. ولأن لا 8 ولا 14 آذار في الخضم، لن يُكسر جدار هذا الصمت، شأن انتخابات 2009 عندما باغتها البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير آنذاك، عشية الاقتراع المقرّر في 7 حزيران.
بعيد اختتام الخلوة السنوية لمجلس الأساقفة الموارنة، ترأس صفير قداساً عرّج فيه على الانتخابات النيابية في خاتمة العظة، واتخذ موقفاً قلب الاستحقاق رأساً على عقب، أكثر تقدّماً وتسييساً من بيانين صدرا عن الخلوة في أيامها الخمسة ما بين 31 أيار و6 حزيران (2009)، بدعوتهما إلى المشاركة وطرحهما معايير أخلاقية ووطنية للمرشح إظهاراً لبكركي على أنها على مسافة واحدة من طرفي الاشتباك.
في عظة اليوم الأخير لخلوة 6 حزيران، أطلق صفير موقفاً صادماً للاستحقاق، بتحذيره من نتائج يمكن أن ينتهي إليها في حال فوز المعارضة. قال: «نحن اليوم أمام تهديد للكيان اللبناني وهويتنا العربية، وهذا خطر يجب التنبّه إليه. لهذا يقضي الواجب علينا بأن نكون واعين لما يُدبّر لنا من مكائد، ونحبط المساعي الحثيثة التي ستغيّر ـ إذا نجحت ـ وجه بلدنا».
على أن لانتخابات 2018 أكثر من دلالة:
أُولاها، أن الأفرقاء جميعاً يتجرأ واحدهم على الآخر في عقر داره، ما أعطب، إلى حد، «الغيتوات» الانتخابية الموصدة تماماً منذ عام 2005. ذلك ما يقال عن بيروت وطرابلس وصيدا والبقاع الغربي، إذ أصبحت نصفين. نصف للرئيس سعد الحريري، ونصف لخصومه. يصحّ أيضاً على دعم الثنائي الشيعي لوائح في مناطق نفوذ خصومه في معظم الدوائر، واضطراره هو بالذات إلى الدفاع عن لوائحه في مناطقه، إذ يواجه لوائح هؤلاء، خصوم تجرأوا عليه بدوره على أكثر من مقعد.
ثانيها، أن انتخابات 2018 تجري للمرة الأولى منذ نحو عقد ونصف عقد من الزمن، في ظل رئيس للجمهورية ليس موضع شكوى أو تجاهل. في استحقاق 2005 كان الرئيس إميل لحود في أسفل السلم السياسي، مهملاً، غير مسموع الكلمة، يدير فريقا النزاع على الأرض، 8 و14 آذار، الاشتباك وجهاً لوجه. في استحقاق 2009 كان ثمة رئيس للجمهورية منتخب لسنة خلت هو ميشال سليمان فاقد الدور بإزاء الفريقين، مكتفياً بدور المتفرّج عليهما يؤسسان أمامه لسلطة ما بعد الانتخابات في معزل عنه. في انتخابات 2018 يبدو الرئيس ميشال عون في صلب الاستحقاق. رئيس للجمهورية وفي الوقت نفسه المرجعية الأصل لحزبه، إلا أنه صانع تسوية سياسية أظهرت مقدرتها على الصمود في سنة ونصف سنة من ولايته، رغم صعاب ضخمة جبهتها.
ثالثها، أن انتخابات 2018، أياً يكن الحجم الذي ستخرج منه الكتل النيابية الكبرى والمفاجآت المحتملة فيه، حددت سلفاً خيارات المرحلة الجديدة، وربما قراراتها. كما أعدت انتخابات 2009 لوصول سعد الحريري إلى السرايا، كذلك حال الاستحقاق الحالي يعرف باكراً من سيترأس الحكومة الجديدة التي ستكون في كل حال على صورة أولى حكومات العهد، ترجمة لمسار لا تزال تسلكه تسوية 2016. الأمر الذي لم تخبره كذلك انتخابات 2009 حينما سُمّي الحريري مرتين لرئاسة الحكومة ولم يسعه تأليفها إلا بشروط المعارضة التي خسرت الغالبية النيابية.