محمد وهبة – الأخبار
يتفق خُبراء وباحثون اقتصاديون على ضرورة الإصلاح الاقتصادي، إلا أن مقارباتهم متباعدة جداً، بين واثق باستحالة إلحاق الهزيمة بالنموذج القائم، وبالتالي الإصلاح من ضمن النموذج، وبين متحمس للتصحيح الشامل، وما بينهما من شتات أفكار. طرفا النقيض يعبّرون، بشكل أو بآخر، عن آراء أحزاب سياسية كبرى انخرطت في السلطة ولم تفِ بالتزاماتها الإصلاحية.
بين 1991 و2017 اجتذب لبنان أكثر من 200 مليار دولار تدفقات نقدية تحوّلت إلى ودائع مصرفية ثم أصحبت ديوناً على القطاعين العام والخاص. من أصل هذا المبلغ لم ينفق على إعادة الإعمار سوى 5 مليارات دولار. أما النموّ الذي أفرزته هذه العملية، فكان نموّاً قائماً على انتفاخ أسعار العقارات، وعلى تضخيم الأصول المالية، فيما ثبت أن العلاقة بين الإنفاق العام ومعدلات النمو هي علاقة عكسية، إذ كلما زاد الانفاق العام تراجع النموّ!
العقل الاقتصادي لحزب الله، ممثَّلاً برئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق عبد الحليم فضل الله، يعتقد أن «النموذج الاقتصادي الفاشل» كان يتغذى على ثلاثة شرايين، هي: مجلس النواب ومجلس الوزراء ومصرف لبنان، إلا أنه «لم يعد هناك طرف سياسي يتحكم بالبرلمان ولا بالحكومة، وبقيت السياسات النقدية وحدها تضخّ الروح بهذا النموذج».
مقاربة الحزب لكيفية معالجة أزمة الاقتصاد اللبناني، تختلف جذرياً عن مقاربة حليفه التيار الوطني الحرّ. بحسب المسؤول الاقتصادي في التيار شربل قرداحي، لم ينضج النظام السياسي بعد لمقاربة اقتصادية شاملة. وبسلوك براغماتي لمن يجلس في السلطة، يعتقد قرداحي أن المسألة تعالج تقنياً من داخل النموذج عبر ثلاثة مسارات: خفض عجز المالية العامة، تخفيف الدين المحمول من مصرف لبنان، فصل الأدوار بين السياسة النقدية والسياسة الاقتصادية.
هذا هو الاقتصاد اللبناني الذي أُنقذ بمؤتمرات الدعم الدولية، وآخرها «باريس 4» أو «سيدر». هل يستحق هذا النموذج الإنقاذ؟ هل هناك فرصة للتصحيح؟ من أين يبدأ الإصلاح؟ من داخله بجرعات تقنية براغماتية، أو من الخارج بقرارات تفرض سياسات جديدة بديلة؟ اي اقتصاد نريد في لبنان؟
هذه الأسئلة وسواها، كانت محور النقاش الذي دار أول من أمس بين مجموعة من الخبراء والباحثين الاقتصاديين الذين دعاهم المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، إلى المشاركة في حلقة نقاش خاصة بعنوان «المديونية العامة في لبنان: مخاطر الأزمة والإطار الاقتصادي والمالي للحلّ».
فشل الخيار النقدي
الهدف من حلقة النقاش، كما عبّر عنه رئيس المركز عبد الحليم فضل الله، يكمن في البحث عن الخيارات المتاحة والبديلة. يعتقد فضل الله أن الخيار المتاح يكمن في الحلّ المتكامل وربط السياسات بعضها ببعض، بدلاً من طغيان السياسة النقدية على ما عداها. لم يعد بالإمكان الاستمرار في «الخيار النقدي» الذي يفرض أن تكون السياسة النقدية هي القاطرة للسياسات الاقتصادية والاستفادة من الظروف الاستثنائية التي لم تعد لمصلحة لبنان اليوم. فهذه الظروف التي عملت في السابق على جذب التدفقات النقدية، باتت تؤدي إلى طردها اليوم، لا بل هي تعقّد عملية بسط مظلة أمان فوق الاقتصاد.
الفشل نابع من طبيعة النموذج الحالي. فهو يعتمد على «التدفقات الخارجية لتمويل احتياجات الدولة بلا ضرائب وضمن التسلسل الآتي: الأموال تأتي من الخارج لتموّل الحكومة والاقتصاد، ثم هذا الاقتصاد ينمو، فيموّل بدوره المالية العامة من عائدات الريوع ويحفّز التدفقات الخارجية مجدداً. روّج للبنان على أنه جنّة ضريبية تبين أنها أسّست لمشكلة الدين العام». فما حصل، أن «النموّ المنشود لم يحصل»، بل أدّت التدفقات إلى «استقرار نقدي ناجح»، إلا أنه كان «استقراراً شكلياً وليس اقتصادياً، أي أن سعر الصرف تجاه الدولار ثابت فيما هو متحرّك تجاه العملات الأخرى». والأسوأ من ذلك، أنه «رغم إنفاق الدولة أكثر من 220 مليار دولار خلال عقدين من الزمن، خصص جزء صغير للاستثمارات المجدية، مقابل جزء كبير هو عبارة عن إنفاق تعويضي ذي عمق سياسي ومناطقي وطائفي بلا نتائج اقتصادية».
ومن مظاهر هذا الفشل، أن العلاقة بين الإنفاق العام والنموّ كانت علاقة عكسية. «كلما زاد معدل الإنفاق العام، تراجع النمو»، ومفاعيل الاستثمار كانت ضعيفة جداً، إذ وفد إلى لبنان من 2007 إلى 2012 نحو 80 مليار دولار، لكن تأثير هذا المبلغ على النموّ كان محدوداً إلى حدّ كبير». عملياً، ثُبِّت سعر الصرف مقابل فلتان معدلات التضخم، فأصيب لبنان بما يعرف بالمرض الهولندي، وارتفعت معدلات سعر صرف الليرة الحقيقي.
وعندما واجهت الحكومة «مشكلة عدم تدفق الأموال من الخارج»، لجأت إلى زيادة أسعار الفوائد، وعملت على امتصاص السيولة «بغضّ النظر عن كلفتها». إذاً، كيف نبحث عن حل المديونية في إطار الرؤية الشاملة؟ برأي فضل الله «هذا هو الانتقاد الأساسي الموجّه إلى مؤتمر باريس الأخير، إذ لم يؤخذ بالاعتبار الرؤية الاقتصادية التي يجب أن توضع خطة الاستثمار في إطارها، وتعديل السياسات المالية والنقدية على أساسها».
«نموذج» للاستدانة
هذا النمط استمر لأكثر من عقدين ونصف، وكان مكلفاً جداً. بحسب مدير المحاسبة السابق في وزارة المال أمين صالح، فإنه «حتى عام 2016 كانت الفوائد تمثّل 92% من الدَّين العام البالغ 81 مليار دولار، وفق التصريحات الرسمية». هذا الدَّين يعدّ وهمياً، لأن هذه الفوائد لم يكن لها أي أصل اقتصادي. وبحسب الخبير الاقتصادي غازي وزني، بات الدين يرتفع بوتيرة سريعة، وبات يشكّل اليوم 153% من الناتج المحلي الإجمالي، و«مؤشرات 2018 تشير إلى أن الدَّين سيتنامى»، يقول وزني.
ليس هناك شكّ في أن طبيعة الدَّين تحفّز تضخّمه بسرعة، لكن الأمر يثير الأسئلة الآتية: ما هي أهمية نسبة الدَّين إلى الناتج في بلد غير منتج كلبنان؟ ما هو حجم الدين بالعملات الأجنبية؟ هل يمكن الوصول إلى خفض طوعي وملموس للفوائد؟ هذه الأسئلة اقترح فضل الله أن يدور النقاش حولها في ظل وجود ائتلافات وكارتيلات في لبنان تمنع التوصل إلى الحلّ «الطوعي».
تضاعف المخاطر السيادية للاقتصاد
أبرز المداخلات جاءت على لسان المسؤول الاقتصادي في التيار الوطني الحرّ شربل قرداحي. يقول الرجل إن مجمل نفقات الدولة بين 1991 و2015 بلغت 188 مليار دولار، منها 76 مليار دولار فوائد، و5 مليارات دولار إعادة إعمار، فيما كانت إيرادات الدولة، رغم كل التهرب والغش والتلاعب 124 مليار دولار، أي إنه كان هناك فائض أولي تراكمي بقيمة 3 مليارات دولار. «أي محاسب أو مدير خزانة كان يمكنه إدارة هذه الأموال بنحو أفضل». ويضيف: «انتهينا اليوم بدَين متراكم بقيمة 80 مليار دولار، وفوائد مدفوعة بقيمة 67 مليار دولار (ربما وصلت إلى 75 مليار دولار في نهاية 2017)».
ما يقوله قرداحي هو أن المشكلة تكمن في حجم الدَّين العام والكلفة في ظل عدم نضج النظام السياسي إلى درجة تضمن إيجاد نظرة شمولية للاقتصاد، لذا يعتقد أنه «لا يمكن الحديث عن حلّ اقتصادي شامل، بل يمكن إيجاد حلّ تقني ابتداءً بمشكلة الدين العام التي تعوق النموّ وتضاعف المخاطر السيادية للاقتصاد على تمويل سعر الصرف وعلى تمويل المالية العامة وتوازن القطاعات».
يعتقد قرداحي أن هناك ثلاثة مداخل للحل التقني: يكمن أولها في تخفيف العجز وتحقيق فائض أولي سنة بعد سنة، وثانيها، فصل الأدوار بين السياسة النقدية والسياسة الاقتصادية، إذ إن «الجزء الأكبر من مشكلة الدين العام تكمن في أن السياسة النقدية أدّت إلى اقتطاعات كبيرة من فئات اقتصادية لمصلحة فئات أخرى، علماً بأن هذا التوزيع يجري عادة عبر النظام الضريبي، ويجب أن يحافظ على عدالة اجتماعية وأن يحقق أهدافاً أسمى. التوزيع المحقق من فئات غير مقتدرة لمصلحة فئات تتمكن أكثر فأكثر».
وثالث المداخل، هو إجراء مراجعة لكلفة الفائدة. «فمصرف لبنان يحمل 25 مليار دولار دَيناً، ولا مبرر لأن يبقى يحصل على 7% و8% سنوياً. مصرف لبنان نفذ هندسات مالية متتابعة لمصلحة فئات مختلفة، وبالتالي يجب القيام بهندسة لمصلحة الدَّين العام، وأن يستبدل بديونه ديوناً فائدتها صفر في المئة. كانت هناك محاولة وبداية جيدة في الموازنة بقيمة 6 مليارات دولار».
كذلك يعتقد قرداحي أنه «يجب الجلوس مع كبار المودعين والمصارف للحديث عن إعادة النظر بكلفة الفوائد وخفضها. يجب الحفاظ على الودائع، ولدينا مصلحة في ذلك، لكن لا يمكن الإكمال بالطريقة التقليدية. يجب البحث في خفض الكلفة. لا يمكن مواصلة مصرف لبنان إصدار شهادات إيداع للمصارف بفائدة أعلى نقطتين أو ثلاث قبل إصدار وزارة المال سندات الخزينة».
في مقابل هذه الرؤية، طرح الزميل محمد زبيب مقاربة مختلفة تشير إلى أنه ليس هناك صدفة في أن التدفقات النقدية التي جذبها النموذج بلغت 200 مليار دولار خلال العقدين الأخيرين، وتبيّن أن هناك ودائع لدى المصارف بقيمة 200 مليار دولار، وأن هناك دَيناً عاماً وخاصاً بقيمة 200 مليار دولار، وأن هناك عجزاً تجارياً بقيمة 200 مليار دولار أيضاً. هذا التشابه يعني أن اللعبة بسيطة إلى درجة أن «كل بحث خارج إطار تغيير النظام لا معنى له. أي مدخل للنقاش هو مدخل سياسي لفرض عملية التصحيح وإعادة توزيع الخسائر الناتجة منها».
سقوط أركان النموذج
تقترب رؤية حزب الله من «الرؤية الجذرية»، لكن لا تبلغ حد الاندفاع الراديكالي عند الآخرين نحو تغيير النظام، بل تبحث عن طريقة لتوجيه ضربة استراتيجية تكون أبعد من التغيير التقني الذي يدعو إليه التيار، ولا تكون راديكالية بسلوك ثوري كما يطرح آخرون. المطلوب توجيه ضربة تؤدي إلى تغيير النموذج. يقول فضل الله: «هناك من يقول ألا نعطي أولوية للدين العام على باقي الأولويات، وكأن هناك من يقول دعوا الأمور تصحّح نفسها حتى لو كان هذا الثمن شكلاً من أشكال الخيار الاقتصادي على المستوى المالي تحديداً. صحيح أننا لسنا جاهزين للطروحات الراديكالية، لكننا جاهزون لخيار تقديم العلاج انطلاقاً من اعتبارها مشكلة الاقتصاد السياسي. في السابق، كان من يدير النموذج هو نفسه الذي يقبض على المؤسسات. أعني بذلك مجلس النواب والحكومة ومصرف لبنان. في هذه المؤسسات الثلاث أُنتِج النموذج المكرَّس في الفترة الماضية، لكن اليوم هناك مؤسستان لم تعودا ضمن استحواذ فريق واحد بالمعنى السياسي والاجتماعي، هما مجلس النواب والحكومة. ومع أن هذا النوع قد يعطّل دوران عجلة الدولة، لكنه منع فريقاً من الاستحواذ على القرار السياسي. ولم يبقَ إلا نوع واحد من السياسات التي تتحكّم وتعطي الحياة للنموذج القائم، هي السياسة النقدية (التي يرسمها وينفذها مصرف لبنان)، ومن خلالها يجري ضخّ الروح بالنموذج الفاشل. كيف يمكن إجراء إصلاح من دون إعادة النظر بسياسة تثبيت سعر الليرة، وبما يتناسب مع رؤية اقتصادية؟ ينبغي طرح هذا السؤال بجدية».