وكان أحدث ضحية لهذه الاعتداءات، الناشط والمحامي، واصف الحركة، الذي تعرض، قبل أسبوعين وفي وضح النهار للاعتداء على طريق عام أمام المارة والقوى الأمنية، وعلى بعد أمتار من وسيلة إعلامية.
المعتدون كانوا مجموعة من مرافقي وزير السياحة والشؤون الاجتماعية، رمزي مشرفية، وأقدموا على الاعتداء على الحركة بالضرب المبرح، على خلفية تنظيمه لاعتصامات داخل الوزارة.
اللافت في ما كشفه التحقيق، أن هذه السيارة كانت قد رصدت عبر الكاميرات في مكان اعتداء آخر، تعرض له في وقت سابق الناشط في "ثورة 17 تشرين الأول"، فراس أبوحاطوم، الذي فوجئ لدى عودته إلى منزله بمجموعة مسلحين انهالوا عليه ضربا داخل المرآب في المبنى الذي يقطن فيه.
ولاحقا، اعترف المعتدون خلال التحقيق بجريمتهم، لكن لا علاقة للوزير مشرفية بأسباب الاعتداء هذه المرة، إنما بسبب قيام أبوحاطوم عبر صفحته على فيسبوك بنشر تفاصيل لممارسات "ضغط وحماية مارسها الزعيم الدرزي والنائب في المجلس النيابي، طلال أرسلان، على القضاء اللبناني، من أجل التستر على محازبين تابعين له اعتدوا على مراقبين تابعين لوزارة الاقتصاد، والتوسط لأحد مرافقيه الملقى القبض عليه والمتهم بابتزاز نساء بصور فاضحة لهن"، بحسب ما يؤكد أبوحاطوم في حديثه مع موقع "الحرة".
للمصادفة فإن أرسلان هو صهر الوزير السابق وصاحب بنك "الموارد" مروان خير الدين، الذي هو الآخر في سجل مرافقوه اعتداءين مترابطين بحق نشطاء في "انتفاضة 17 تشرين الأول".
الاعتداء الأول كان ضحيته الصحفي الاقتصادي محمد زبيب، في حين كان ضحية الثاني مجموعة من الناشطين، الذين كانوا اعترضوا على سياسة بنك الموارد وطالبوه بدفع حقوق المودعين.
تنصل الوزراء والسياسيون من مرافقيهم ودانوا الاعتداءات التي باتت تتخذ طابعا ممنهجا ومحميا من السلطة اللبنانية بمختلف مؤسساتها وأحزابها السياسية.
البلطجة كأسلوب حياة
بالعودة إلى المفهوم التاريخي للبلطجة، يبدو واقع لبنان الأرض الأكثر خصوبة لنمو هذه الظاهرة. فـ"البلطجي" في اللغة التركية، وصف أطلق على الشخص الذي كان يحمل سلاح "البلطة" في حضرة السلطان العثماني، ليؤدب بها العصاة.
وكان هناك فرق من "البلطجية" الذين اعتمدوا هذا السلاح ومهمتهم كانت ترهيب سكان القرى والمدن التي تخضع حديثا للاحتلال عبر العنف، وإجبارهم على تقديم الولاء.
وتحتاج البلطجة بدورها إلى عاملين، الأول "ولاء" تُمارس في إطاره، والسلطة اللبنانية بأحزابها الطائفية دائما ما نجحت في ترسيخ ولاء أتباعها لها.
أما العامل الثاني، فهو ضعف الدولة وغياب المحاسبة، وهو الأمر الواقع في لبنان خاصة في الآونة الأخيرة بعد الانهيار الاقتصادي وانعدام الثقة الشعبية بالدولة ومؤسساتها.
انعدام محاسبة
ويرى المحامي، فراس حمدان، عضو اللجنة المكلفة من قبل نقابة المحامين الدفاع عن المتظاهرين، أن "عصابات البلطجة باتت فوق القانون وبشكل علني".
وأشار إلى أن "هناك استنسابية في تعاطي القوى الأمنية والقضاء مع هؤلاء البلطجية ومع المتظاهرين والنشطاء الذين يتم توقيفهم لأتفه الأسباب، فيما يتم التغاضي عن الاعتداءات المخيفة والهمجية التي استهدفت التظاهرات وخيم الاعتصام وما رافقها من تحطيم الاملاك العامة والخاصة من قبل اتباع الأحزاب السياسية، كذلك يتم التغاضي عن العنف المفرط من قبل الاجهزة الأمنية".
"وحدها قضية المحامي، واصف الحركة، وصلت إلى إلقاء القبض على الفاعلين بسرعة قياسية، وذلك بعد تبني نقابة المحامين للقضية وادعائها المباشر على المعتدين ومتابعة النقيب ملحم خلف للأمر، إضافة إلى التعاطف والتضامن الشعبي والإعلامي بوجه وقاحة الاعتداء، ما فرض على الدولة التحرك سريعاً"، بحسب ما يشرح حمدان.
فردية أم منظمة؟
"منذ 15 عاما نشهد هذه الاعتداءات وسرعان ما توضع في إطارها الفردي"، يقول حمدان، مشيرا إلى أن "كل الكلام الذي يرفع المسؤولية عن حماة هؤلاء البلطجية، هو تهرب إعلامي من المسؤولية، فيما القانون إذا ما تم تطبيقه يحاسب المشارك والمحرض والشريك والمتدخل والمتستر، لكن التطبيق مختلف كليا للأسف".
من جهتها، ترى المحامية، نيرمين سباعي، أن ظاهرة "البلطجة" خرجت عن الإطار الفردي، فالاستهداف يتم من قبل جهات معينة وضد ناشطين محددين لهم تأثير بالرأي العام اللبناني، وسط انعدام الأسباب الشخصية للمعتدين.
"استمر المعتدون بمراقبة تحركات المحامي، واصف الحركة، لستة أيام، وهم كانون يحملون بأسلحة ويستقلون سيارة تابعة للدولة اللبنانية"، كل هذه المعطيات بالنسبة لسباعي، "لا تدل إلا على حماية سياسية وغطاء ودعم مقدم لهؤلاء المعتدين وتخرج الحدث من أي طابع فردي"، لكن المشكلة قانونيا تكمن في صعوبة الربط الحسي بين المعتدين وحماتهم، بحسب سباعي، فـ"الغطاء السياسي لا يمكن الاستدلال عليه إلا بالتفسير السياسي، بينما الربط القانوني لن يصل إلى نتيجة بغياب القوانين الواضحة والحاسمة لجهة المحاسبة وتحميل المسؤوليات".
بلطجة دينية
بلطجة من نوع آخر شهدتها منطقة النبطية في جنوب لبنان، وذلك حين اعتدت مجموعة محسوبة على حزب الله والحركة أمل على شبان في أحد الوديان بسبب "الاختلاط مع النساء".
وتنطلق سباعي من هذه الواقعة لتشير إلى أن "البلطجة هنا جاءت لأسباب أخرى أيضا، فبالإضافة إلى انعدام المحاسبة ودراية الناس بذلك، هناك ثقة بالغطاء الذي يحتمي به هؤلاء البلطجية، وهذا ما يظهره ولاء جميع المعتدين لأحزاب وجهات سياسية ومدعومين منها ما يمنحهم الجرأة والقدرة على التنكيل بالمواطنين لمجرد اختلافهم".
ولأن سبب البلطجة في هذه الحالات عقائدي، فإن "انعدام قانون يحمي جميع المواطنين من التمييز والكراهية على أساسات دينية وعقائدية وحماية الآخر المختلف، يسهل هذه الاعتداءات ويقلل من فرص المحاسبة فيها وبالتالي يعزز من هذه البلطجة"، بحسب سباعي.
وتوضح المحامية أن "غياب هذا القانون يساهم في حماية الأحزاب المحرضة التي لا تتخذ أي إجراءات بدورها لتخفيف خطاب الكراهية ضد الآخر ولا ترى نفسها معنية بتصحيح ذهنية جمهورها، ولا تحارب هذه الممارسات بل تكتفي بالتنصل مقابل تعزيز خطابها الطائفي والعنفي".
تهديد لحقوق الإنسان
هذه البلطجة باتت في مستوى يهدد واقع حقوق الإنسان في لبنان، فبحسب الباحثة في الشؤون اللبنانية في منظمة "هيومن رايتس ووتش"،آية مجذوب، فإن "ما يجري من ممارسات واعتداءات تصنف في خانة المس بحقوق الإنسان لكونها لا تقابل بعملية محاسبة وضبط من قبل الدولة اللبنانية، فهذا هو الحد الفاصل بالفعل ما بين تصنيف الأحداث الفردية التي تعتبر جرائم او جنح وما بين المس بحقوق الإنسان عموماً".
وتضيف مجذوب: "طالما أن هناك تقصير قضائي وأمني وغطاء سياسي على المعتدين فهذا يضع حرية الرأي والتعبير في مرمى الخطر في البلاد، مؤكدة أن المنظمة تواكب حاليا مسار الأحداث في لبنان، وتراقب آلية التعامل معها من قبل الدولة اللبنانية وعلى أساسها سيكون لها تقارير ستصدر تباعا في الفترة المقبلة، كما حصل سابقا بشأن الاستدعاءات والممارسات بحق الناشطين والصحفيين".
بلطجة أمنية وقضائية
لا تسلم مؤسسات الدولة الأمنية من هذه الممارسات. يرصد للأجهزة الأمنية اللبنانية الفعل نفسه، من حرس مجلس النواب إلى قوى مكافحة الشغب وقوى الأمني الداخلي ومخابرات الجيش اللبناني وغيرها، غالبيتها قامت باستخدام العنف المفرط في قمع التظاهرات، اعتدت على مواطنين ومتظاهرين في سياراتهم خارج مواقع التظاهر، وعذبت معتقلين أثناء نقلهم إلى مراكز احتجازهم، وجميع هذه الاعتداءات موثقة بالأدلة الحسية.
يؤكد كل من سباعي وحمدان أن "النقابة ولجنة الدفاع عن المتظاهرين تقدمت بشكاوى عديدة ضد الأجهزة الأمنية ورفعت الصوت بالأدلة التي تحوزها. لكن المحاسبة لم تتم حتى اليوم بسبب التطبيق غير القانوني، حيث تم تحويل التحقيق إلى الأجهزة الأمنية نفسها المتهمة بممارسة الاعتداءات، أي أنهم أرسلوا الضحايا مجددا إلى الجلاد فكيف نتوقع عدالة؟" وتضيف سباعي: "حين اعترضنا قاموا بحفظ الشكاوى، هذه بلطجة قانونية وأمنية والمنظومة كلها محرضة ومسؤولة عن ذلك".
المواجهة
لم يؤثر الاعتداء على نشاط، فراس أبوحاطوم، الذي لا يزال ينتقد السياسيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي بالوتيرة نفسها، لكنه لا يخفي أن تفاصيل حياته اليومية كلها تغيرت، "أخاف على أولادي وأقلل جدا من تحركاتي، لم أعد اتنقل ليلا، وقد توقف جزء كبير من عملي بعد الاعتداء".
وعلى الرغم من التعاطف والتضامن الذي حظي به بعد الاعتداء، يشير أبوحاطوم إلى أن "هدف البلطجة قد تحقق، فمقابل كل هذا التضامن، هناك حملة تنمر أكبر واجهتا عبر مواقع التواصل الاجتماعي وفي حياتي اليومية، حملة لا تزال تنال يوميا مني شخصيا ومن عائلتي ومن محيطي ويعيبون علي الضرب الذي تعرضت له، ويستخدمونه في تسخيف ما أعرضه من فساد وممارسات ضمن نشاطي، في حين ان التهديدات لا تزال تصلني حتى اليوم".
لا يثق أبوحاطوم بالقضاء أبدا، ويؤكد أنه لولا المصادفة التي كشفت علاقة المعتدين عليه بالمعتدين على المحامي واصف الحركة، لكان الملف نائما في الأدراج من دون محاسبة أو كشف، كما هي الحال مع معظم الاعتداءات التي طالت غيره من الناشطين.