هيام القصيفي – الاخبار
لا يمكن عزل ما يجري انتخابياً، في الأحداث والخطب والتصرفات، عن الواقع السياسي العام، إذ لن يبقى أثرها محصوراً بالمقاعد النيابية. ثمة قراءة سياسية في أداء التيار الوطني الحر وانعكاسه على مستقبل الرئاسة في العهد الحالي وما بعده.
يكثر الكلام عن التيار الوطني الحر واستخدامه نفوذه كحزب العهد في احتكار التعيينات والتوظيفات والترقيات والمحسوبيات في وظائف إدارية وأمنية وفي كل ما يمتّ إلى الوظائف العامة بصلة. وإذا كان هذا الكلام ليس جديداً، إلا أنه بدأ يأخذ منحىً أكثر حدة في الآونة الأخيرة، ولا سيما في مرحلة شدّ العصب الانتخابي. إن المشكلة مزمنة وتعمقت في مرحلة شد الكباش بين التيار والرئيس نبيه بري، الذي أخذ أشكالاً مختلفة منذ أشهر، والعلاقة الجافة بين التيار والنائب وليد جنبلاط. وكذلك إن تسليط الضوء عليه، زاد بفعل نفوذ التيار في الوسط المسيحي، ونبرته وخطابه المتعلق باستعادة حقوق المسيحيين. وقد بات في دائرة الاتهام كونه يزيد من منسوب الطائفية والمذهبية وتجييش الناخبين من أجل الحصول على حصة انتخابية كبيرة.
يمكن منتقدي التيار ورئيسه الوزير جبران باسيل، تعداد الكثير من الأخطاء التي ارتكبها الأخير على طريق تثبيت «خطاب مسيحي» وشدّ العصب الحزبي والعام، لتحصيل حقوق أهدرتها السلطات المتعاقبة. لكن المدافعين عن أهداف التيار، من دون أن يوافقوا على طريقة التنفيذ، يعيدون التذكير بأن خصوم التيار، وعلى رأسهم القوى المسيحية في 14 آذار، دخلوا إلى السلطة منذ عام 2005، إلى جانب حليفهم الرئيس سعد الحريري وفريقه، قبل الافتراق التام بينهما، لكنهم لم يتمكنوا من فرض حضورهم في الإدارة وفي الدولة والسلطة الحاكمة، فبقوا على هامش الحياة السياسية، ولم ينجحوا في توظيف أحد، ولو كان من مناصريهم. لكن التيار نجح خلال فترة قصيرة في تزخيم «الوجود المسيحي» في مجلس النواب والحكومة والإدارة، حتى بالتعاون مع الحريري نفسه، وأعاد الاعتبار إلى المواقع المسيحية، وصولاً إلى أعلى سلطة رئاسية، من خلال انتخاب العماد ميشال عون رئيساً.
لكن المشكلة أن صعود التيار صاروخياً، في عهد «الرئيس القوي»، ترافق مع حملة انتقادات لأدائه وأداء رئيسه والعهد ومن حوله. وإذا كان التيار يستظل بالعهد، فيزيد من منسوب التحدي لخصومه، إلا أن ذلك من شأنه أن يضاعف المحاذير أمامه، لأن هناك خيطاً رفيعاً بين رفع الصوت وتأمين قاعدة مستقبلية متنية، وبين رفع الصوت لمكتسبات آنية، لا يبنى عليها مستقبلاً وتطيح فكرة الإتيان برئيس قوي.
خطورة ما يحصل اليوم، بحسب مراقبين سياسيين، في أن كثرة التحديات تؤدي إلى أمرين:
أولاً، إن خصوم التيار، وهم كثر، لا يمكن أن يستمروا طويلاً في تحمل استفزازات يتضاعف عددها تدريجاً وتتلطى بالعهد. وهؤلاء، ومنهم من كان في السلطة لوقت طويل وشهد عهود «الرئيس الضعيف»، باتوا يتحسسون من عبارة «الرئيس القوي» ومن أداء حزبه. وهذه النار لا يمكن أن تبقى طويلاً تحت الرماد، لأن من شأن استمرار هذا الجو الاستفزازي أن ينعكس على العهد ومستقبلاً على ما بعده. وقد بدأ الحديث من الآن، عن أن تجارب الرؤساء السابقين بعد الطائف، التي لم يجد فيها المسيحيون ضالتهم، إنما كانت أخفّ وطأة بطبيعة الحال على القوى السياسية الأخرى. وهذا يفترض أن يعيد بعض التوازن إلى خطاب التيار وأدائه فلا يجنح أكثر، لأن ما التزمه حزب الله مع رئيس الجمهورية الحالي قد يكون في حلّ منه مع غيره. فكيف الحال والحزب بدأ يعطي ملاحظاته على أداء التيار من دون مواربة؟ وأين ستكون مصلحة المسيحيين الذين يدافع عنهم التيار، إذا كانت تجربة الرئيس القوي والعهد القوي تدفع القوى السياسية إلى نبش شخصيات وتجارب حيادية وباهتة؟ وأين ستكون مصلحة التيار في أن يطيح إنجازات موقتة، فلا يؤسس لمستقبل يركز فيه التيار وفريقه ومن يمثل من المسيحيين حضورهم في السلطة، بدل أن يضاعف عدد خصومه، فتتحول تجربة العهد الحالي، إلى تجربة يتيمة، لا تنعكس فقط على التيار، بل على القوى المسيحية كلها؟ وما هي مصلحته في استنفار عصبيات ونبش حساسيات قوى سياسية رغم كل مآخذه عليها؟ علماً أنه لا يمكنه التعويل على تفاهمه مع تيار المستقبل، لأن له ظروفه وحيثياته، كما أن لتيار المستقبل حساباته الإقليمية والمحلية التي قد تتبدل بحسب الظروف.
ثانياً، إن التيار لا يراكم خصومه من القوى السياسية من غير بيئته المسيحية حصراً. ما خلقه التيار في الوسط المسيحي من حساسيات، يفترض أن يحاذر منه، لأنه جمع كل خصومه في سلة واحدة، وأضاف إليهم البطريركية المارونية التي لا توفر سبيلاً إلى انتقاد ممارسة العهد والتيار في الإدارة وتسجل عليه سلسلة ملاحظات لها علاقة بالمحسوبيات. وهؤلاء يجمعون على أن التوظيفات إنما تصبّ في خانة طرف واحد، و«عودة المسيحيين» إلى السلطة، تختصر فحسب بعودة مناصري التيار إليها، ناهيك عن سلسلة ملاحظات باتت معروفة. وهذا يعيد التذكير بتجربة الرئيس فؤاد شهاب كرئيس قوي، وكان ينال رضى الشارع الإسلامي، إلا أن القوى المسيحية الرئيسية انقلبت عليه وهزمته في انتخابات عام 1968. وإذا كانت القوى المسيحية نادت بأن يكون الرئيس ممثلاً لبيئته ويكون انعكاساً بقوته للشارع المسيحي، فإن تجربة هذه القوى مع الظواهر الحالية، وقد تعززت في مرحلة الإعداد للانتخابات، بدأت أيضاً تثير التباسات وأسئلة، واستعداداً مبكراً لكباش حاد معه حول الحكومة المقبلة. من دون أن ننسى أن القوى المسيحية الثلاث الأساسية بدأت معركتها الانتخابية في مواجهة حزب العهد، ولم يبلغ بعد نصف الولاية. وهذا وحده مؤشر كافٍ.