قد يصحّ القول إن روما من فوق غير ما هي عليه من تحت في أي مكان من العالم وفي أي نظام إلاّ عندنا في لبنان، لأن الظاهر أن من يتطلع إلى بيروت من فوق لا يستطيع، أو بالأحرى لا يريد، أن يرى ما يحصل من تحت. هذا على الأقل ما توحي به تصريحات المسؤولين، الذين تجعلهم الأماكن العالية يسكرون بما يتمنون أن يكون عليه الوضع من تحت، وهو مغاير للصورة التي تعكسها تلك التصريحات، التي تبدو في مكان ما وكأنها تتحدّث عن واقع غير الواقع اللبناني، وعن عالم يختلف كليًا عن عالمنا، وهو عالم خالٍ من المشاكل والتعقيدات والأزمات، التي لا تعداد لها لكثرتها.
لقد صُب جام غضب السلطة على بعض المخربين الذين كسرّوا وحرقوا وخرّبوا في العاصمتين بيروت وطرابلس، مع ما لهاتين العاصمتين من رمزية، ولم ينتبهوا أن ثمة أناس نزلوا في المقابل سلميًا ليطالبوا بالحدّ الأدنى من مقومات العيش الكريم في وطن تُنتهك فيه حقوقهم كل يوم.
ومع أننا ندين أعمال التخريب والتكسير وكل ما من شأنه أن يشّوه صورة التظاهرات الحضارية، إلاّ أنه في المقابل يجب عدم الإستهانة بالمسببات التي تدفع بهولاء إلى فعل ما يفعلونه، اللهم إلا إذا لم يكونوا مدفوعين أو مدفوع لهم. هؤلاء الذين يخرّبون ويحرقون، بغض النظر عن بعض الخلفيات، لم ينزلوا إلى الشارع لأنهم حاصلون على كل شيء من دولتهم، التي يُفترض بها أن تؤّمن لهم مستقبلًا آمنا إجتماعيًا، وألا تتركهم فريسة للمصطادين في المياه العكرة، وما أكثر هؤلاء هذه الأيام.
يُفترض بمن يقفون من على الشرفات العالية أن يروا الواقع كما هو، وأن يتصرّفوا في معالجاتهم على اساس هذا الواقع، لا على اساس الواقع الذي يُراد لهم تصويره، إذ ما بين الواقعين فرقًا شاسعًا لا يمكن الخلط بينهما، لأن الإلتباس في هذا الشأن قد يضيّع البوصلة، وبالتالي تصبح المعالجات المنتظرة لغير الواقع المعيوش، والذي لم يعد يُطاق، إذ لم يعد في مقدور الطبقات الشعبية، التي اصبحت الغالبية منها تحت خطّ الفقر، القدرة على الإحتمال.