محمد زبيب – الأخبار
تستضيف العاصمة الفرنسية، اليوم، مؤتمر باريس ــ 4 (سيدر). وقد وجّه المنظمون دعوات الى نحو 50 حكومة ومنظمة اقليمية ودولية لحضوره، والاطلاع على العروض السخية التي سيقدّمها الوفد اللبناني الرسمي، بهدف الحصول على المزيد من القروض الخارجية والاستثمارات الاجنبية المباشرة. وكذلك الاطلاع على مروحة واسعة من الالتزامات والتعهدات والضمانات، التي ستعطيها الحكومة للدائنين والضامنين والمستثمرين، بهدف طمأنتهم.
تقدّم الحكومة اللبنانية اليوم، في مؤتمر باريس ــ 4، برنامجها الطويل الاجل للاستثمار في تجهيز البنية التحتية، باعتباره “السلعة” المعروضة للبيع. وستطرح عدداً هائلاً من المشاريع في المرحلتين الاولى (2018 ــ 2021) والثانية (2022 ــ 2025)، تقدّر كلفتهما الاجمالية بنحو 17.253 مليار دولار أميركي، بما فيها كلفة استملاكات الاراضي المقدّرة بنحو 1.7 مليار دولار.
ترتكز خطّة الحكومة لتمويل هاتين المرحلتين الى 3 مصادر:
ــ 40% (6.9 مليارات دولار)، عبر عقود الشراكة مع القطاع الخاصّ، وهي بمثابة دين مخفي على الدولة، أو بمثابة نقل الكلفة من موازنة الحكومة الى موازنة الأسر. ولكن، في ضوء المخاطر السياسية وغير السياسية، التي قد ينظر إليها مستثمرو القطاع الخاص، بحسب ما جاء في وثائق الحكومة الى المؤتمر، فإن الاستثمارات الخاصة المباشرة قد لا تتجاوز 5 مليارات دولار للمرحلتين الأولى والثانية، منها 3 مليارات دولار للمرحلة الاولى.
ــ 50% (8.6 مليارات دولار)، عبر القروض الخارجية من دول ومؤسسات تمويل دولية وبرامج إقراض مخصصة للاجئين السوريين. ولكن، بحسب مصادر في الوفد اللبناني، فإن جلّ ما ستحصل عليه الحكومة هو اعلانات لتجديد قروض متفق عليها سابقاً مع الاتحاد الاوروبي والبنك الدولي، ولذلك ستبذل الحكومة جهودها مع المشاركين في المؤتمر من اجل حشد تمويلات بقيمة مليار دولار، تمهيداً للانضمام الى برنامج مخصص للدول المستضيفة للاجئين، وهو برنامج شراكة بين مجموعة البنك الدولي والأمم المتحدة ومجموعة البنك الإسلامي للتنمية، يقوم على آلية محددة تسمح باقتراض 4 دولارات مقابل كل دولار يؤمنه المانحون للبرنامج، ما يعني أن الحكومة ستحصل على قروض خارجية جديدة بقيمة 4 مليارات دولار في حال نجحت في سعيها، بالاضافة الى القروض القديمة غير المقرّة والمعروضة امام الحكومة ومجلس النواب.
ــ 10% (1.7 مليار دولار)، عبر سندات دين محلية مخصصة لتسديد تعويضات استملاكات الاراضي. وستعلن الحكومة عن برنامج مع مصرف لبنان لإصدار سندات بقيمة 700 مليون دولار لهذا الغرض في العام الحالي والعام المقبل.
تتوقع الحكومة ان لا تحصل على اﻟﻘروض اﻟﺟدﯾدة قبل اﻟﻧﺻف اﻟﺛﺎﻧﻲ ﻣن ﻋﺎم 2019. وتتوقع ايضاً أن لا ﺗﺗﺟﺎوز اﻟﻣدﻓوﻋﺎت اﻟﻔﻌﻟﯾﺔ 1.6 ﻣﻟﯾﺎر دوﻻر كمتوسط سنوي، ما يعني انها ستكون قادرة على تنفيذ مشاريع بقيمة 12.8 مليار دولار في السنوات الثماني المقبلة، 5 مليارات دولار منها عبر الاستثمارات الخاصة، و4 مليارات عبر القروض الخارجية، والباقي عبر الاستدانة المحلية والاعتمادات في الموازنة، أو عبر إلغاء المشاريع التي لا تثير اهتمام المستثمرين والدائنين.
خيار الخصخصة: التجربة خير برهان
خصصت الحكومة المشاريع المدرّة للأرباح لعرضها امام المستثمرين المحليين والاجانب، وتشمل عقود الشراكة المطروحة انتاج الكهرباء وتوزيعها، محطات تسييل الغاز وتخزينه، ادارة قطاع المياه، ادارة النفايات ومعالجتها، الاتصالات، الطرق السريعة، النقل المشترك، المرافئ والمطارات وغيرها… وهذه العقود في حال تمّ إبرامها ستمثل واحدة من أكبر عمليات نقل الثروة العامة الى الثروة الخاصة، من خلال الاستحواذ على امتيازات واحتكارات ومرافق لا بديل منها امام المقيمين في لبنان. وتتضمن خطة الحكومة أشكالاً مختلفة من هذه العقود، بعضها يتيح للمستثمرين جباية ايرادات مباشرة من المقيمين لاسترداد كلفة الاستثمار مع الارباح خلال فترة قصيرة (كما في حالة مشاريع الطرق السريعة والنقل المشترك والاتصالات مثلاً). وبعضها يتيح للمستثمرين الحصول على ايرادات مضمونة من الحكومة، تسدد سنوياً من الموازنة العامة (كما في حالة مشاريع انتاج الكهرباء وادارة قطاع المياه مثلاً)، إذ تلتزم الدولة بشراء الانتاج او الخدمات بالاسعار المتفق عليها مع المستثمر، والتي تتضمن كلفة الاستثمار والتشغيل والفوائد على ديون المشروع والربح.
باعتراف الجميع، فإن هذه الاشكال من العقود أعلى كلفة من استدانة الحكومة مباشرة لتنفيذ هذه المشاريع والاحتفاظ بها كأصول وتجهيزات عامّة، أي ملك المجتمع. كذلك فإنها ذات أثر اجتماعي سلبي أكبر بكثير من أثر زيادة الضرائب المباشرة على الارباح والريوع لتمويل المشاريع المطروحة. وبالتالي، يرى الكثير من الخبراء أن الحجّة وراء تبنّي مثل هذا الخيار ضعيفة جداً، ولا يمكن تفسير إصرار الحكومة على الخصخصة واستعدادها لتحميل المجتمع المزيد من الخسائر، الا بوصف ذلك من آليات عمل ما يسمّى “رأسمالية الكوارث” أو “عقيدة الصدمة”، التي اعتمدتها سياسات “النيوليبرالية” في تشيلي في ظل الحكم الديكتاتوري، وفي تايلاند وسيريلنكا بعد التسونامي، وفي العراق في ظل الاحتلال الاميركي، وفي الولايات المتحدة بعد إعصار كارولينا، وفي اليونان في ظل وصاية “ترويكا” الدائنين… تقوم هذه السياسات على استغلال كل أزمة أو حرب أو كارثة لطرح افكار “السوق الحرّة”، وتمكين رأس المال الخاص من الاستحواذ على رأس المال العام، وإيهام الناس المصدومين أن لا خيار آخر امامهم للخروج من صدمتهم الا التنازل امام الشركات.
الدوران في حلقة مفرغة
لا يوجد دليل واحد في جميع هذه التجارب المذكورة على ان الاوضاع صارت افضل بعد تحرير الاقتصاد والخصخصة والتقشف، بل اسفرت جميعها عن مديونيات مرتفعة وحلقات عجز مالي مقفلة ومستويات عالية جداً من التفاوت في توزيع الدخل والثروة.
لقد اختبر المقيمون في لبنان، على مدى ربع قرن تقريباً، شتى صنوف الشراكات مع القطاع الخاص، واضطروا في صيف عام 2015 للخروج الى الشوارع احتجاجاً على نتائج إحدى هذه الشراكات في ادارة النفايات (سوكلين وشقيقاتها). وكذلك خسر اصحاب الحقوق في وسط بيروت امام قوة شركة “سوليدير”، التي استحوذت على املاكهم في قلب العاصمة، واستولت على ردم البحر في الواجهة البحرية، وحصلت على حصرية ادارة وتشغيل البنية التحتية والخدمات، بما في ذلك المرفأ السياحي الغربي الذي تدفع “سوليدير” 2000 ليرة فقط لا غير بدل ايجار كل متر مربع فيه، وتجني منه ملايين الدولارات كأرباح.
واختبر المقيمون أيضاً تجربة شركات مقدمي خدمات توزيع الكهرباء وصيانتها وجباية فواتيرها، إذ استمرت الخدمات بالتراجع وارتفعت الاكلاف، في حين يمضي الكثير من العمّال (المياومين) شهوراً عدّة من دون اجورهم ويواجهون خطر فقدان وظائفهم. وهذا ما حصل ايضاً في الجامعة اللبنانية التي تتولى شركة خاصة صيانتها وتشغيل تجهيزاتها. وفي سياق الامثلة، يعدّ عقد صيانة مبنى وزارة التربية مكلفاً جداً، وكذلك استئجار مبنى الاسكوا والكثير من المباني الحكومية واسطح المنازل والبنايات (اعمدة الاتصالات). وكذلك يعرف المقيمون نتائج هذه العقود في رفع الاسعار وتضخيم الارباح، كما هي حال موقف السيارات التابع لمطار بيروت ومغارة جعيتا والاستراحات وسائر الاملاك العمومية البحرية والنهرية وغيرها…الخ.
زيادة الاستدانة الخارجية والداخلية
تسعى الحكومة للحصول على قروض من “برنامج تسهيلات التمويل المُيسّر” (GCFF)، التابع للبنك الدولي، ومن برنامج “آلية تسهيل الاستثمار في دول الجوار” (NIF) الخاص بالمفوضية الأوروبية. وقررت الحكومة، بالتشاور مع مصرف لبنان، إصدار سندات لتمويل استملاكات الأراضي وغيرها من الأموال المقابلة المطلوبة بمبلغ 700 مليون دولار أميركي.
بالاستناد الى وثائق الحكومة الى باريس ــ 4، ستقوم الحكومة بمواكبة زيادة الدين الخارجي والتحويلات الى المشاريع المخصخصة بخفض العجز المالي سنوياً بنسبة 1% من مجمل الناتج المحلي على 5 سنوات، أي بما بين 500 مليون و600 مليون دولار، وسيتم ذلك عبر زيادة الضرائب على الاستهلاك (TVA ومحروقات وغيرهما) وعبر الإلغاء التدريجي لدعم اسعار الكهرباء، وتخفيض كلفة نظام التقاعد، كذلك تتعهد الحكومة بمواصلة سياسة تجميد التوظيف في الادارات العامّة (الا بقرار يصدر عن مجلس الوزراء بغرض التحكم في عملية التوظيف واستخدامها في سياق شراء الولاءات). ولكن في مقابل هذه الاجراءات المؤلمة، ستزيد كلفة مدفوعات الفائدة في الموازنة العامّة، وتستحوذ على المزيد من الايرادات.
الحق على اللاجئين!
تضع الحكومة كل اسباب الازمة في سلّة اللاجئين السوريين، كما لو ان الاوضاع المالية قبل عام 2011 كانت جيدة، وهو ما توحي به المقارنة بين معدّلات النمو الاقتصادي قبل الصراع في سوريا وبعده. تقول وثيقة الحكومة إن معدّل النمو بلغ 8% وسطياً في السنوات الثلاث التي سبقت انفجار الوضع في سوريا وانخفض الى 1% في عامي 2016 و2017، علماً بأن معدّلات النمو خلال الاعوام 2008 و2009 و2010 هي استثنائية ومرحلية، وارتبطت بهروب الرساميل في خضم الازمة العالمية وارتفاع اسعار النفط، علماً بأن قاعدة بيانات البنك الدولي تبين أن معدّلات النمو المحققة بين عامي 1997 و2006 بلغت أقل من 2% وسطياً، وسجلت انكماشاً بنسبة ــ0.45% في عام 1999، أي إن معضلة انخفاض النمو باتت بنيوية منذ فشل رهانات ما سمّي “مشروع الاعمار” في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي.
تستند الحكومة الى تقديرات البنك الدولي حول الكلفة التراكمية على لبنان منذ بداية الصراع في سوريا، وتقول إنه كان يقدر للدخل أن يرتفع نحو 18.15 مليار دولار حتى عام 2015، في حين بلغت التحويلات الاضافية من الحكومة إلى مؤسسة كهرباء لبنان لتوفير الكهرباء للنازحين نحو مليار دولار سنوياً، وبلغت الزيادة في الدين العام اللبناني نحو 6 مليارات دولار، نتجت من تمويل العجز الإضافي المتصل بالأزمة السورية والفوائد المترتبة عليها بين نهاية عام 2011 وعام 2016!
وتنطلق الحكومة من هذه التقديرات لتشير الى ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 150٪ بحلول نهاية عام 2017، في حين بلغت مدفوعات الفوائد على الديون نحو 10٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017، واستحوذت على أكثر من نصف الإيرادات الحكومية. الا ان الحقائق الاحصائية تفيد بأن الدين العام يرتفع بمعدّلات مرتفعة منذ عام 1992، وقد بلغ نسبة 183% من مجمل الناتج المحلي في عام 2006، وبالتالي لا يوجد أي دليل على ان آلية تنامي الدين ارتبطت بأي شكل من الاشكال بأزمة اللاجئين السوريين.
ترجيح انفجار «القنبلة الموقوتة»
تكرر الحكومة في وثائقها الى مؤتمر باريس ــ 4 ما درجت عليه في المؤتمرات السابقة، إذ تقول إنه من دون “دعم المجتمع الدولي لتجنب المزيد من تصاعد مستويات ديون الأسواق وتخفيض عبء الفائدة… من المرجّح أن تنفجر القنبلة الموقوتة”. وتشرح ان “الزيادة الحادة في الاستثمار العام” ستساعد على الإسراع في تدعيم الاقتصاد المنهك وتعزيز ثقة القطاع الخاص في لبنان.
تضع الحكومة رؤيتها للاستفادة ممّا تسميه “دعم المجتمع الدولي” على 4 ركائز:
1. زيادة كبيرة لمستوى الاستثمار العام على المدى القصير، من خلال تنفيذ المشروعات التي تم تخصيص قروض أجنبية لها (…) مع زيادة دور القطاع الخاص.
2. التكيف المالي الذي سيتيح سيناريو دين مستدام.
3. ضمان تحقيق النمو الذي يقوده القطاع الخاص إلى أقصى حدّ ومستدام. وتشمل هذه الجهود إعادة هيكلة القطاع العام.
4. وضع استراتيجية لإزالة الاختناقات امام استثمارات القطاع الخاص، وتأمين استقرار الاقتصاد الكلي والمالي.
تقر الحكومة في وثائقها بأن المعضلة تكمن في انخفاض مستوى الاستثمار العام بشكل مطرد إلى 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 2001 ــ 2005 و2٪ خلال الفترة 2006 ــ 2010 وثم الى 1.4% خلال الفترة 2011 ــ 2017. وبهذا، تقرّ الحكومة بأن الفجوات الكبيرة بين الاحتياجات والعرض تعود الى حقبة ما قبل بداية الأزمة السورية. ويشمل ذلك معدل الاستثمار الخاص أيضاً، الذي انخفض من 30٪ خلال الفترة 2007 ــ 2010 إلى ما يزيد قليلاً على 20٪ خلال الفترة 2011 ــ 2015.
نتيجة ذلك، لم يعد الاقتصاد اللبناني قادراً على خلق فرص العمل، كمّاً ونوعاً، بما يغطي الطلب على الوظائف. واستناداً إلى تقديرات البنك الدولي الواردة في وثائق الحكومة، فإن كل مليار دولار من النفقات الرأسمالية يولد ما يقرب من 50.000 فرصة عمل ، بما في ذلك الوظائف المباشرة والوظائف الناشئة في صناعات سلسلة التوريد والأنشطة الاقتصادية الأخرى المستحدثة. هذه التقديرات دفعت برئيس الحكومة، سعد الحريري، الى الاعلان منذ ايام، في لقاء انتخابي، ان برنامج الحكومة الى مؤتمر باريس ــ 4 سيوفر 900 الف فرصة عمل، إذ عمد الى ضرب 17 مليار دولار (قيمة البرنامج على مدى 8 سنوات) بعدد الوظائف المقدّر، كما لو ان ذلك جائز حسابياً، ومن دون أي تمييز بين المشاريع والقطاعات وآثارها، والأهم من دون أي اشارة الى طبيعة هذه الوظائف ونوعها، إذ هي بمعظمها مؤقتة ومتدنية الاجور ولا تحتاج الى عمالة ماهرة كثيفة، وخاصة في ظل تلزيم معظم هذه المشاريع الى شركات أجنبية أو شركات تعمل من الباطن وتستغل العمالة الوافدة الرخيصة.