تحت عنوان سياسة شراء الوقت مستمرّة: العلاج الجذري غائب، كتب محمد وهبة في "الأخبار": تمكّن مصرف لبنان من جمع مبلغ يفوق 2.8 مليارات دولار في بضعة أسابيع عبر نوعين من العمليات المالية. الأولى قضت بأن تبيع المصارف منتجاً يتضمن إيداع مبالغ مالية بقيمة تفوق مليون دولار تستحق بعد ثلاث سنوات بفائدة سنوية إجمالية تبلغ 14.3%، وأن تُودِع المصارف، في المقابل، هذه الأموال لدى مصرف لبنان في حسابات مجمّدة لفترة مماثلة مقابل فائدة بمعدل 11%، وعلى أن تحصل أيضاً على قروض تساوي 125% من قيمة الودائع بالليرة بفائدة 2%، وأن تعيد توظيف المبالغ المقترضة بفائدة تصل إلى 13%. معدل العائد الذي حصّلته المصارف من هذه العمليات يصل إلى 22% على مبلغ يقدّر بنحو 1.4 مليارات دولار.
أما النوع الثاني من العمليات، فهو كان عملية واحدة لعب فيها "سوسييتيه جنرال بنك" و"غولدمان ساكس" دور الوسيط لاستقطاب مبلغ يفوق 1.4 مليار دولار. قضت هذه العملية بأن تشتري إحدى الشركات الفرنسية المتخصصة في إدارة الأصول والثروات شهادات إيداع صادرة عن مصرف لبنان، وتستحق بعد خمس سنوات، وبفائدة سنوية إجمالية تصل إلى 14%، وأن تكون هذه الشهادات مدرجة في شركة "يوروكلير" (مقرّها بلجيكا)، بدلاً من أن تكون مدرجة في شركة "ميدكلير" اللبنانية. وبنتيجة هذه العملية حصل الزبون على فائدة سنوية تزيد قليلاً على 12%، فيما حصل الوسيطان على عمولة تصل إلى 1.5%. وبحسب مصادر مصرفية معنية، فإن "سوسييتيه جنرال بنك" قدّم التزاماً لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بالعمل على استقطاب ودائع أخرى مماثلة، وهو يقوم بجولة على صناديق أجنبية لإقناعها بتوظيف الأموال في لبنان.
كلفة هاتين العمليتين على مصرف لبنان تقدّر بنحو 540 مليون دولار سنوياً، تضاف إلى مبلغ ملياري دولار سنوياً يدفعها مصرف لبنان على المبالغ التي استقطبها خلال السنوات الثلاث الماضية، بحسب أحد أعضاء مجلس إدارة جمعية المصارف. هذا الأمر لا يعني أن الكلفة تزداد باطراد فحسب، "بل هي تتركّز أكثر فأكثر لدى مصرف لبنان"، بحسب رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، عبد الحليم فضل الله، ما يثير سؤالاً أساسياً عن كيفية تغطية مصرف لبنان لهذه الكلفة.
ليست هناك خيارات كثيرة متاحة في هذا الإطار، فالمصرف المركزي كان ينفذ هندسات مالية لاستقطاب الدولارات وتعزيز احتياطاته بالعملات الأجنبية، ما يعني أنه كان يرفع أسعار الفائدة ويخلق النقد لتغطية الكلفة الإجمالية الناتجة من الهندسات. كذلك كانت الخزينة العامة تشارك في تحمّل هذه الكلفة من الاستدانة مباشرة من السوق. وفي مرّات نادرة شاركت المصارف في تحمّل جزء من هذه الكلفة (إصدار بقيمة 3.6 مليارات دولار بفائدة صفر في المئة إثر مؤتمر باريس 2).
في الواقع، تمثّل المبالغ المدفوعة من مصرف لبنان كلفة شراء الوقت التي يمارسها مصرف لبنان منذ سنوات لضخّ الأوكسيجين في شرايين النموذج الاقتصادي القائم على استقطاب العملات الأجنبية من الخارج لتمويل الاستهلاك العام والخاص (استيراد السلع واستدانة الدولة). هذه الكلفة بدأت تصبح عبثية إلى حدّ ما، في ظل التدهور اللاحق بالاستقرار النقدي والانكماش الاقتصادي. فقد نشأت سوق غير نظامية لسعر صرف الليرة مقابل الدولار، وبات تسعير الليرة مرتبطاً أكثر فأكثر بعمليات المضاربة وهواجس الشركات والمستهلكين. أمس، سجّل سعر الصرف غير النظامي 1570 ليرة مقابل الدولار الواحد وسط نقص حاد في الدولارات (النقدية) في السوق. وبدأت شركات استيراد المحروقات والقمح والدواء وسواها من المستوردين تشعر بصعوبة الحصول على الدولارات اللازمة لاستيراد السلع. لذا، باتت تضغط أكثر فأكثر على مصرف لبنان من أجل الحصول على "كوتا" تستعملها هي وحدها لتمويل عمليات الاستيراد. مشكلة هذه الشركات أنها تدفع ثمن السلع المستوردة بالدولار وتقبض ثمنها من السوق المحلية بالدولار.
نتج هذا الأمر، أساساً، من السياسات النقدية الانكماشية التي أدّت إلى إمساك مصرف لبنان بالكتل الأكبر من الدولارات والليرة بهدف السيطرة على أي شكل من أشكال الانهيار. أدّى هذا الأمر إلى رفع أسعار الفائدة المحلية، فازدادت الأعباء على النشاط الاقتصادي الحقيقي الذي تقلص بدلاً من النمو، ما يعني أن الاستهلاك يتراجع والشركات تقلّص حجم أعمالها وتصرف العمال، ما يزيد البطالة والفقر.