مهيب الرفاعي
تصاعدت خلال الأشهر الماضية حدة الصراع التركي اليوناني فوق مياه شرق المتوسط، مدفوعاً هذا برغبة كل من البلدين بالسيطرة على موارد الغاز بعد اكتشاف كميات هائلة من الغاز في هذه المنطقة. وعلى وقع إرسال تركيا بواخرَ للتنقيب عن الغاز مصحوبة بسفن حربية إلى المياه المجاورة لجزيرة قبرص، تعالت أصوات الدول الأوروبية التي تدعم اليونان لمطالبة تركيا بالعدول عن برنامجها الاقتصادي الخاص بملف التنقيب عن الغاز. لم تتردد القيادة العسكرية التركية بزجّ قوة أسطولها البحري في هذه العملية، كونها بحاجة ماسة لتأمين احتياطي طاقة لبلد يعيش في حالة نموّ سكاني واقتصادي مضطرد، والأهم النمو العسكري والجيوسياسي. وفي ذات الوقت، لا يسع اليونان ودول الاتحاد الأوروبي التي تدعمها، كونها دولة ضعيفة، أن تقف مكتوفة الأيدي أمام تحرك تركي تعدّه دول الاتحاد تعدياً صارخا على سيادة دولة أوروبية وضربة لمواثيق الأمم المتحدة الخاصة بترسيم الحدود البحرية.
صراعٌ حديث قديم
وإن كانت هناك علاقات تجارية ودبلوماسية بين أنقرة وأثينا، إلا أن مشكلات تاريخية ترتبط بالخلاف على بحر إيجة من جهة، وبالخلاف بين الأقليات في جزيرة قبرص التي كانت محط نزاع بين الدولتين، والذي انتهى بتقسيم الجزيرة إلى قسمين تركي ويوناني. يعود الخلاف إلى ما يقارب قرنين من الزمن منذ استقلال اليونان عن الإمبراطورية العثمانية عام 1932 ومجموعة من الحروب كأن أبرزها الحرب اليونانية التركية 1922، ليشتدّ حديثاً في الحرب العالمية الثانية وحقبة الحرب الباردة. ولعبت مشكلة الأقليات، القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين، دوراً مهماً في تشكيل معالم النزاع على المستويين الثنائي والدولي، ولم تتوقف هذه الخلافات حتى بعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى أثينا في فبراير العام الفائت. الحسابات الحديثة الظاهرة بين أنقرة وأثينا تأتي على خلفية إيواء اليونان مجموعة من الانقلابيين الأتراك الفارين بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، وتطالب أنقرة بلا هوادة بمحاربة جماعة فتح الله غولن، المصنفة إرهابية، والموجودين على الأراضي اليونانية. وعلى مستوى آخر، تبرز خلافات جيوسياسية واقتصادية ذات أهمية بالغة خاصة عندما تتعلق المسألة بالأمن القومي التركي، والعمق الاقتصادي لوريثة الدولة العثمانية. هذا الصرع يأتي بعد ضرب اليونان معاهدات السلام مع تركيا، ولا سيما معاهدة لوزان 1923 ومعاهدة السلام عام 1974 بعرض الحائط، مع إنكار حق تركيا في السيطرة على جزر أمام السواحل التركية، الأمر الذي يقيّد النطاق الاقتصادي لأنقرة. وعلى خلفية هذا الصراع، برز ملف السيطرة على المجال الجوي والبحري وتبعه سباق تسلح منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بين البلدين، مع سعي اليونان لتسليح جزر قريبة من تركيا أبرزها جزيرة كاستيلوريزو “، وسعيها الآن للضغط على الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على تركيا.
اليونان وملف تركيا في الاتحاد الأوروبي
لم يكن دخول تركيا، البلد ذي الأكثرية المسلمة، إلى الاتحاد الأوروبي، الذي يشكل المسيحيون فيه الأغلبية، سهلاً برغم توفر مقومات دخولها من اقتصاد متنامٍ وقوة عسكرية صاعدة ودبلوماسية مرنة. تخوفت اليونان من المد الإسلامي إلى الاتحاد الأوروبي، خاصة وأن عدد المسلمين الكبير يشكل تهديداً للوجود المسيحي وقضاياه في أوروبا، وفرض التعامل مع قضايا المسلمين على أنها مشاكل أوروبية أيضاً. واستغلت اليونان قضية تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد لتؤلّب الرأي العام الأوروبي ضد الأتراك، وهذا ما دفع العديد من الباباوات والكاردينالات إلى حشد المسيحيين الأوروبيين في خطاب ديني ضد تركيا وعزلها. وعمدت اليونان خلال 2019 و2020 إلى افتعال مشكلات على الحدود البحرية وع الأتراك من أجل ضمان عدم استقرار تركيا داخلياً وجر أنقرة إلى أتون حرب، ولو نظرية، مع دول الاتحاد. وفي ذات الوقت، وكردّ على هذا الهجوم الأوروبي، استخدمت تركيا ملف اللاجئين كورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي، عبر فتح الحدود أمام اللاجئين أوائل 2020 في محاولة لإجبار الأوروبيين على إعادة النظر في موقع تركيا في السياسة الإقليمية، وعدم تلقيها أية مساعدات من الاتحاد الأوروبي لرأب الصدع الاقتصادي والديموغرافي الذي خلفه وجود ما لا يق عن 3.5 مليون لاجئ على أراضيها.
الجرف القاري، الغاز الطبيعي
يقدر حجم الغاز الطبيعي الاحتياطي في منطقة شرق المتوسط حوالي 4 تريليون متر مكعب، ما استدعى تكالباً دولياً على المنطقة سواء من الدول المطلّة على المنطقة أو من حلفائها. عام 2019، شكلت كل من فلسطين ومصر وإسرائيل واليونان وإيطاليا اتحاداً لتنسيق عمليات التنقيب عن النفط والغاز في حوض شرق المتوسط، لكن تركيا، التي تمتلك ساحلاً كبيرا على المنطقة، لم تكن طرفاً في هذا الاتحاد، الأمر الذي أثار حفيظتها وكلّفها إرسال سفن تنقيب أكبرها “أوروتش رئيس” ثم ” ياووز ” و “طومان باي” و” أرطغرل باي”، كردّ فعل على إقصائها من الاتحاد. أثار هذا الفعل حفيظة اليونان ودول الاتحاد الأوروبي التي عدّت الدخول التركي اعتداءً على المياه الإقليمية من الناحية الشمالية لجزيرة قبرص، ما أدى إلى توتر بين كل من أثينا وأنقرة على خلفية الادعاء بأحقيّة تركيا في التنقيب في المنطقة القريبة من الجرف القاري اليوناني.
ازدادت حدة التوتر في أغسطس الماضي بعد أن اجتمعت القوات البحرية من كلا الجانبين اليوناني والتركي في حالة من الجهوزية ضد أي خطر يعترض سفن التنقيب من الطرفين. غضبت أثينا من وجود القوات التركية قبالة شواطئ جزيرة كاستيلوريزو اليونانية، واعتبره حلفاؤها اعتداءً سافرًا على مياهها الإقليمية، الأمر الذي أدى إلى تصعيد دولي وتصعيد على مستوى استقطاب في التحالفات من كلا الجانبين. استفادت فرنسا من هذا الصراع في تأليب دول الاتحاد الأوروبي على تركيا ودفعهم إلى فرض عقوبات على أنقرة، كما استفادت من عداوة مصر وتركيا في جذب القاهرة إلى صفّ أثينا، خاصة وأنّ حالة العداء في أوجها بعد تدخل قوات أنقرة في ليبيا ضد قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر المدعوم من قبل مصر والإمارات. أبدت القاهرة وتل أبيب استعداداً للوقوف إلى جانب أثينا في مواجهة أنقرة في محاولة لتطويق مشروعها في استخراج النفط من مناطق شرق المتوسط، وقطعها الطريق أمام إمداد قواتها في ليبيا، وحصر تأثيرها في مناطق شمال المتوسط.
التحالفات والأهمية الجيوستراتيجية
بدأت معالم الصراع في شرق المتوسط وأخذت مصادر الطاقة تحدد آفاقه بعد اكتشاف مصر حقل زهر للغاز الطبيعي عام 2015، ليكون بذلك أكبر حقل للغاز الطبيعي في المنطقة البحرية مجال الصراع الحالي. أكسبت الاكتشافات المتتالية في المياه الإقليمية المصرية و المياه الإقليمية اللبنانية و الفلسطينية أهمية جيو استراتيجية لشرق المتوسط، لا سيما وأن شركة إيني للطاقة Eni Energy ، و هي الشركة ذات الأصول الإيطالية التي تقوم بأعمال التنقيب في المياه الإقليمية اليونانية، و التي تسعى إلى الاستحواذ على امتيازات التنقيب في الحقول أمام ساحل فلسطين و مصر واليونان، تسعى في ذات الوقت لتصميم خطة عمل مشتركة بين كل من اليونان و مصر وإسرائيل من أجل الاستئثار بحقول شرق المتوسط وإبعاد تركيا خارج حسابات الطاقة في المنطقة المذكورة. من شأن خطية ” إيني” أن تضرب خطوط إمداد الطاقة التركية إلى أوروبا، ومن شأنها حرمان تركيا من التحكم بالبنية المستقبلية لخطوط الغاز نحو أوروبا. على الرغم من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر وحالة عدم الاستقرار بعد انقلاب الرئيس عبد الفتاح السيسي ووصوله إلى الحكم، إلا أن هذه الشركات نجحت في تنفيذ اتفاقيات تقضي بتوريد الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، ما يعني في هذه الحالة أن تركيا لن تتمكن من الترويج لنفسها على أنها مركز إقليمي للطاقة بعد الضربة التجارية التي لحقت بالبنية التحتية لخطوط الأنابيب إلى أوروبا. علاقات فرنسا الوطيدة مع لبنان سهلت دخول شركة توتال TOTAL العالمية إلى شرق المتوسط ضمن امتيازات للتنقيب في المجمّع رقم 9 والمجمع رقم 4 اللذين يحتويان على كميات ممتازة من الغاز، وساعد على ذلك تحالف “توتال” مع ” إيني “. كان هذا التحالف ضربة قاسية لمخطط أنقرة كونه ساعد على نقل فرنسا لتصبح ضمن قائمة الدول المنخرطة في صراع الطاقة في شرق المتوسط. ومع تبدلات في مسار العلاقات السياسية، وافقت قبرص عام 2018 على تزويد مصر بمعدات مصانع الغاز المسال، بينما أسرعت إسرائيل إلى توقيع اتفاقية تزويد مصر بالغاز الطبيعي، في خطوة مسّت باتفاقيات تزويد مشترك بين أنقرة وتل أبيب عبر أنابيب بحرية.
لم تنفع الدبلوماسية التركية في استعادة السيطرة على واقع الطاقة في المنطقة، ولجأت إلى إرسال قوات بحرية لإعادة ضبط موازين القوة. وأمام التحركات التركية، كانت تحركات مصرية يونانية إسرائيلية مدعومة من كل من فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة في خطوة منهم لعزل تركيا وهو ما اعتبرته تركيا خيانة من شركاء في حلف الناتو، وضربة للدبلوماسية العامة الدولية.
تركيا بين العزلة الإقليمية والدبلوماسية
عام 2019، وقعت تركيا اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية في إجراء يضمن ضرب أي حصار بحري محتمل من قبل الدول الأطراف في النزاع، ومحاولة تركية لكسب شرعية أكبر للتأثير على مشروع الدول الثلاث الخاص بتطوير تصنيع وإسالة الغاز الطبيعي. ومن وجهة نظر أنقرة، فإن الحدود التي كانت قبل اتفاقيتها مع طرابلس تحرمها من حصتها العادلة في أخذ مساحة جيدة سواء للملاحة أو التجارة أو الأمن الإقليمي. وجدت تركيا في ليبيا شريكًا يساعدها على رسم خارطة جيوسياسية جديدة في المنطقة، ترفض بالنتيجة الاعتراف بأحقية الجزر اليونانية بالجرف القاري أو حتى بالمنطقة الاقتصادية الخالصة التي وقعت أثينا اتفاقية ترسيمها مع القاهرة في أغسطس الفائت. كانت اتفاقية طرابلس عقبة أمام تقدم يوناني-مصري على مستوى الاستفادة من مساحة أكبر في التنقيب أو حتى على مستوى تجارة الطاقة وتوريد واستيراد الغاز.
ما يهم تركيا بالمقام الأول هو وضع أنقرة على قائمة الدول المتحكمة بمصادر الطاقة في العالم. جهد كبير تبذله القيادة التركية وإمكانيات هائلة؛ دبلوماسية وسياسية وعسكرية واقتصادية، تضعها في خدمة مشاريع الطاقة التي تعمل عليها في الوقت الحاضر، ليكون آخرها اكتشاف حقل “تونا”، أكبر حقل غاز في تاريخها في البحر الأسود بسعة 320 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وسط معمعة خلافا مع اليونان. أنعش هذا الاكتشاف آمال تركيا في إعلان اكتفائها الذاتي من الطاقة بعد ان بلغ حجم وارداتها حوالي 45 مليار دولار سنويًا، كما عدّل موازين القوة في أزمة المتوسط لصالحها. رفع هذا الاكتشاف أسهم شركات الطاقة التركية، كما عزز ثقة المستثمرين بقطاع الطاقة التركي، في محاولة لإعادة هيكلة الخطة الاقتصادية التركية على الأقل للسنوات العشر المقبلة.
حلول الاتحاد الأوروبي
تدرك دول الاتحاد الأوروبي أنه في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية بسبب جائحة كورونا لن تكون قادرة على خوض حرب أو جرّ دولة مثل اليونان إلى أتون مواجهة حقيقية مع تركيا، الرابح فيها خاسر، وكذلك الحال بالنسبة لكل من مصر وإسرائيل، اللتين تقيمان علاقات اقتصادية لا يستهان بها مع تركيا. القاهرة على دراية أن حربها مع تركيا سيؤثر على حجم الاستثمارات الضخم بين البلدين، إذ أنه لطالما بقي الاقتصاد خارج المعادلة السياسية التركية-المصرية. جرّ مصر، بجيشها وعتادها، إلى حرب مع تركيا بالاشتراك مع اليونان وإسرائيل سيفقد مصر ما لا يقل عن 8 مليار دولار حجم تبادل تجاري بين البلدين، مع وجود حوالي 205 شركات تركية في مصر وحوالي 300 ألف مصري يعملون في تركيا. أما على مستوى العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي، فإن ما تسعى إليه هذه الدول وضع حد لأزمة شرق المتوسط وإرضاء كل من اليونان وتركيا بحكم العلقات الاقتصادية مع كل منهما.
تبقي تركيا أملا كبيراً في الدبلوماسية التي تلتقي مع جهود الولايات المتحدة الأمريكية. وتعول دول الاتحاد الأوروبي على الجهود التركية التي تبذلها أنقرة لتهدئة الأوضاع وعدم جر المنطقة إلى حرب لا يمكن تخمين نتائجها في ضوء وجود العديد من التجاذبات السياسية والتحالفات العسكرية. كان آخر هذه الجهود أن سحبت انقرة سفينة “أوروتش ريس” من المنطقة، وأعادتها إلى موانئ أنطاليا ما يتيح المجال أمام فرصة للدبلوماسية وترتيب محادثات بين أنقرة وأثينا والجلوس على طاولة مفاوضات. ينظر حلف شمال الأطلسي بعين الترقب للمحادثات التقنية التي ستحصل بين وفود البلدين في بروكسل. وإن كانت تصريحات الدبلوماسيين الأتراك تنفي سحب السفينة تحت الضغوط الدولية، إلا أنه في نهاية المطاف ما يبدو واضحاً أن مهمة السفينة قد انتهت بحسب جدول زمني تضعه الحكومة التركية، باستعداد الانطلاق إلى مهمات أخرى سواء في منطقة الجرف القاري المتوسطي او في البحر الأسود.