هذه الظاهرة لم يشهدها لبنان خلال المرحلة الأولى من التفشي، حين أغلقت البلاد بقرار "تعبئة عامة" لأكثر من شهرين، نجحت خلالها بضبط انتشار الفايروس وخفض أرقام الإصابات المحلية نتيجة الالتزام الكبير من قبل المواطنين.
إلا أن الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان، والتداعيات المعيشية والاجتماعية لانفجار مرفأ بيروت، إضافة إلى الفوضى السائدة في إدارة البلاد وأزماته وغياب خطة فعّالة من قبل الحكومة اللبنانية، قبل وبعد استقالتها، لدعم صمود المواطنين في الحجر الصحي، دفع بالتجار وأصحاب المصالح والمحال إلى تحدي قرار السلطات، والمخاطرة بفتح محالهم رغم تفشي كورونا، الذي لم يعد أخطر عليهم من الخسائر المترتبة على قرار الإغلاق.
لن ندفع الثمن وحدنا
حسين (39 عاماً) يملك ورشة "ميكانيك" لإصلاح السيارات، التزم بقرار الإقفال لمدة 3 أيام منذ الإعلان عنه، إلا أنه ومع مطلع الأسبوع، اضطر إلى العودة عن قرار الإقفال وفتح محله الكائن في منطقة "غاليري سمعان"، رغما عن قرار الحكومة ورقابة البلدية.
يقول في حديثه مع موقع "الحرة" إنه تشجع بعد أن لاحظ أن آخرين لم يلتزموا بالقرار، فـ"مناطق كثيرة من بيروت وضواحيها لم تلتزم، أصدقائي يعملون في المهنة نفسها في منطقة الغبيري لم يقفلوا محالهم ليوم واحد، رفضوا وفرضوا الأمر الواقع على البلدية، كذلك فعلنا هنا وفي فرن الشباك وعين الرمانة، كنت مستعدا لخوض مواجهة من أجل الدفاع عن حقي في العمل، فأنا ملزم بدفع إيجار المحل الذي أعمل فيه، ورواتب العمال لدي وإيجار منزلي وقرض مصرفي، كيف لي أن أؤمن كل هذه الأموال التي يستحق دفعها نهاية الشهر؟".
من جهتها "جمعية تجار بيروت"، أعلنت، بعد اجتماع طارئ لنقابات القطاعات التجارية، أن التجار سيعيدون فتح مؤسساتهم بدءاً من يوم الأربعاء. وقال بيان الجمعية إن القرار الظالم بالإقفال لا يمكن أن يستمر بعد اليوم على القطاع التجاري، مؤكدا التزام التجار بالبروتوكول المتبع للوقاية من كورونا.
كذلك بالنسبة إلى "اتحاد النقابات السياحية" الذي أعلن أنه لن يقبل "أن يكون مكسر عصا للحكومة اللبنانية التي تتجاهل أزمتهم، في الواقع الاقتصادي أو في مجال مكافحة وباء "كورونا".
يدرك حسين حجم المخاطرة بصحته وصحة العاملين لديه، لكنه يؤكد الالتزام بكافة الإجراءات الوقائية خلال عمله وتواصله مع الزبائن، "لا زلت ملتزما بالإقفال عند الساعة الخامسة بعد الظهر وذلك لمراعاة قرار منع التجول احتراماً للبلدية، وكنت مستعداً للالتزام بكامل قرار الدولة لولا أنها لم تحترم مواطنيها في المقابل، فلا مساعدات وصلتنا لدعمنا في هذه الظروف رغم توفرها من كافة الدول، ولا استثناءات أقرت بخصوص الإيجارات والقروض لتجنيب أصحاب المصالح الخسائر الكبيرة، تريدنا الدولة أن ندفع الثمن كله من جيبنا وهذا ما بتنا عاجزين عنه اليوم".
55 بالمئة من اللبنانيين تحت خط الفقر
يعكس التقرير الصادر عن منظمة "الإسكوا" قبل أيام حال اللبنانيين بعد سلسلة الأزمات التي عصفت بالبلاد، حيث بات أكثر من 55% من المواطنين يعيشون تحت خط الفقر، فبحسب التقرير، تضاعفت نسبة الفقر خلال العام الجاري، بعدما كانت 28% في عام 2019، وارتفعت نسبة الذين يعانون الفقر المدقع بثلاثة أضعاف، من 8% إلى 23%.
وكشفت الدراسة أن "العدد الإجمالي للفقراء أصبح يفوق 2.7 مليون شخص بحسب خط الفقر الأعلى (أي عدد الذين يعيشون على أقل من 14 دولاراً في اليوم)، وهذا يعني عملياً تآكل الطبقة الوسطى بشكل كبير، وانخفاض نسبة ذوي الدخل المتوسط إلى أقل من 40% من السكان". وأضافت: "ليست فئة الميسورين بمنأى عن الصدمات، فقد تقلصت إلى ثلث حجمها هي أيضاً، من 15% في عام 2019 إلى 5% في عام 2020".
مهى (32 عاماً) صاحبة محل لبيع الأفلام والألعاب الإلكترونية، هي أيضاً فتحت محلها في "فرن الشباك" خلال أيام الإقفال المحددة، لكن الأسباب التي دفعتها إلى مخالفة قرار الحكومة اللبنانية مختلفة عن غيرها، فهي تفتح آخر أسبوع لها قبل نهاية الشهر حيث ستغلق نهائياً بعدما تكبدت خسائر كبيرة نتيجة انخفاض القدرة الشرائية لدى المواطنين، الذين باتوا عاجزين عن تأمين حاجاتهم الأساسية، فيما تعتبر مهى أن ما تبيعه بات من الكماليات في هذه الأيام.
"ضحكت بصوت عالٍ حينما جاء عناصر من شرطة البلدية إلى أمام المحل نهار الاثنين، وطالبوني بالإغلاق وإلا سيقومون بإقفال المحل بالقوة وتسطير محضر، كنت أقوم حينها بإفراغ رفوف المحال من البضاعة، الموقف كان مثيراً للسخرية، يهددونني بما بات واقعاً بالنسبة لي، أبلغتهم أنني في صدد إفراغ المحل نهائياً، وطلبت مساعدتهم بما كانوا يهددون به".
تروي لموقع "الحرة" كيف كان هذا المحل سبباً في "البحبوحة" التي عاشتها خلال السنوات الماضية، وكيف نجحت في مساندة زوجها من أجل الارتقاء بمستواهم المعيشي إلى حد مقبول نسبياً، "أشعر اليوم فعلاً أننا تراجعنا كثيراً، كان لدي موظفة في المحل وعاملة منزلية، اضطررت للتخلي عنهما في شهر واحد بعدما استنزفت كامل مدخراتي في سبيل الحفاظ على مصلحتي ولكننا بلغنا مرحلة العجز وبات علينا أن نعيد النظر بكل أسلوب عيشنا، اليوم عدنا فقراء وعلينا أن نقتنع بذلك".
الانهيار سيطال أساسيات الحياة!
هذا الواقع يسبق السيناريو الأكثر خطورة والذي بات يبعد عن اللبنانيين مسافة 3 أشهر على أبعد تقدير، فالحديث عن استنفاذ مصرف لبنان لمخزونه الاحتياطي من الدولارات في سياق دعمه للسلع الرئيسية في البلاد بات اليوم مهدداً بفعل التزام مصرف لبنان بضرورة المحافظة على الاحتياطي الإلزامي، الذي تودعه المصارف التجارية لديه، كضمانة للودائع، فهذا يعني أنّ الدعم سيتوقف عندما يصل المبلغ إلى 17,5 مليار دولار.
هذا السيناريو قاله حاكم مصرف لبنان نفسه، حيث نقلت عنه وكالة رويترز أن "البنك لا يمكنه استخدام الاحتياطي الإلزامي لتمويل التجارة وبمجرد الوصول إلى ذلك المستوى من تلك الاحتياطيات فإننا ملزمون بالتوقف عن تقديم التمويل."
"الاحتياطات محدودة جداً، وما يصرف منها لا يمكن استعادته في المرحلة الحالية" بحسب الخبير الاقتصادي الدكتور لويس حبيقة، الذي يشرح في حديثه مع موقع "الحرة" أن لا عملة صعبة تدخل إلى البلاد، وهذا يعني أن لا طريق أمام مصرف لبنان ليعيد جمع ما ينفقه وبالتالي فإن النتيجة واضحة كأمر واقع منذ فترة وعلى مصرف لبنان الحفاظ على ما بقي لديه.
من جهته يتوقع الباحث في علم الاقتصاد البروفيسور، جاسم عجاقة، أن تصل احتياطات مصرف لبنان في غضون شهرين إلى ثلاثة أشهر إلى 17.5 مليار دولار أميركي "وهو ما يوازي الاحتياط الإلزامي أي أموال المودعين. هذه الأموال تلعب دور محوري في سلامة القطاع المصرفي وبالتالي هناك استحالة المسّ بها."
هذا الواقع سينعكس على كافة النتائج الاقتصادية في البلاد المنهكة أصلا بحسب حبيقة، الذي يؤكد أن معدل الفقر سيرتفع بشكل أكبر بكثير ويتجاوز النسبة الحالية بغض النظر عن آلية احتسابها، فإن القدرة الشرائية للمواطنين ستنعدم، ما سينعكس اجتماعياً وأمنياً، مرجحاً أن يرتفع سعر الصرف الرسمي لليرة إلى الـ4000 مقابل الدولار وفي حينها ستكون الدولة مضطرة لرفع أجور موظفيها كي تستمر المؤسسات بعملها، وإلا فإن الوضع قد يصل إلى فوضى عامة وانفجار مالي يطيح بالاقتصاد اللبناني.
هذه التحذيرات بدأت تنعكس على أرض الواقع ارتفاعاً كبيراً بمعدل الجرائم وعمليات السرقة، وهذا ما يدفع عجاقة بدوره إلى التحذير من "الـ Social Dumping " نتيجة هذا الواقع المتردي، الذي سيؤدي حكمًا إلى اضطرابات شعبية سيكون نتاجها فوضى أمنية على شكل ما يحصل في البرازيل التي وبسبب الفقر، لا يُمكن للمواطنين الخروج من المنزل بعد الساعة السادسة مساءً خوفًا من السرقات والقتل.