وانعكس الارتفاع بشكل مباشر على أسعار جميع المنتجات والسلع في السوق السورية التي باتت تتغير يومياً أكثر من مرة، تبعا لتغيّر سعر الصرف، خاصة الدخان الأجنبي والسلع المستوردة، وسط جو من التوتر العام تجلى في المشاحنات المتكررة بين الباعة والزبائن على الأسعار، فيما بات من المألوف أن يستخدم التاجر الآلة الحاسبة قبل إعطاء السعر للزبون.
ويتلاقى تجار الجملة مع تجار المفرق عند الحذر والخوف، فالصغار يمتنعون عن استجرار الكميات الكبيرة خشية انخفاض لاحق في سعر الصرف ما يكبدهم خسائر محتملة، والكبار يفضلون عدم البيع أو بيع كميات صغيرة خشية الارتفاع المستمر في سعر الدولار ما يحرمهم من أرباح لاحقة. وفي هذا الجو يسود نوع من الشلل العام لحركة السوق، مصحوباً بفوضى التسعير وانخفاض القوة الشرائية للسوريين واقتصار نشاطهم على التزود بالضروريات الملحة.
وبعيداً عن الحديث في الأسباب البنيوية والمزمنة لأزمة الاقتصاد السوري وتداعيات الحرب، فإن التسارع في انخفاض قيمة الليرة السورية يعود إلى عوامل مستجدة أهمها توقف المركزي عن تمويل المستوردات بشكل كامل. وكان المركزي قد خفض عدد المستوردات التي يمولها في أيار/مايو إلى 41 مادة غذائية ودوائية وأولية، قبل خفضها مجدداً في آب إلى النصف. وجاء الإعلان منذ أيام عن توقف تمويل المستوردات، بالكامل، بحجة البحث عن آلية جديدة ستصدر لاحقاً.
وفي المقابل تم الاشتراط على الراغبين في الاستيراد إيداع مبلغ بقيمة 10% من مجموع فاتورة المستوردات، توضع بالدولار في "صندوق مبادرة رجال الأعمال"، لمدة ثلاثة أشهر، على أن يستردها التاجر لاحقاً بالعملة السورية، بسعر مجهول. ويزيد ذلك الإجراء الضبابي الغامض من حاجة المستوردين للدولار بنسبة 10%، كما تجعلهم غير قادرين على احتساب أرباحهم الفعلية، بسبب المصير المجهول لـ10% المودعة في الصندوق. وتسبب ذلك بتحميل تلقائي لمبلغ الإيداع في الصندوق، على أسعار السلع في السوق.
سياسياً، كان لحديث بشار الأسد عن الوضع الاقتصادي وعن سعر الصرف أصداء سلبية في الشارع والاقتصاد السوري، ليس فقط لعجزه عن تقديم أي وعود أو حلول لتحسين الوضع المعيشي، وإنما لكشفه أن شح الدولار في البلاد بسبب "انتصاراته العسكرية"، وأن أحد مصادر الحصول على الدولار في السابق كانت عبر التبادل التجاري بينه وبين "الجماعات المسلحة"، وهو ما لم يعد متوفراً في الوقت الحالي.
ومن منظور سياسي أيضاً، شكلت عودة القوات الأميركية إلى سوريا ومرابطتها حول حقول النفط، مع إصرارها على تفكيك شبكات بيع ونقل النفط المحلي للنظام، ضربة موجعة له، يترتب عليها ارتفاع فاتورة النفط المستوردة بالدولار. كما حرمته تداعيات الأزمة الاقتصادية في لبنان من حديقة خلفية كانت تسمح له بالحصول على الكميات المطلوبة من الدولار بدون ضوابط أو قيود.
في ظل هذه الأجواء يتعذر فعليا معرفة حدود انهيار الليرة السورية أمام الدولار، مع تخوف من هبوطها بشكل متسارع إلى ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، علما أن اشاعات سابقة ذكرت أن النظام العاجز عن إيقاف تدهورها يسعى لامتصاص تداعيات هبوطها على الأسواق عبر السماح بارتفاع هادئ و متدرج لسعر الصرف إلى حدود 800 ليرة سورية بحلول نهاية العام الحالي.
وبغض النظر عن العتبة القادمة وعن إمكانيات النظام الاقتصادية في تثبيت سعر الصرف عند نقطة معينة، إلا أن مؤشرات الواقع المعيشي لعموم السوريين باتت عاجزة عن الاحتمال أكثر، ما ينذر بتداعيات اجتماعية تتخطى حدود الكارثة الإنسانية بكل المقاييس، مع إصرار النظام على البقاء معتمدا على تمويل ذاته من حياة وجيوب السوريين، ومن مستقبل أبنائهم أيضاً.