خبر

الروبل الروسي.. عملة صاعدة فرضتها الحرب والعقوبات

كتب عماد الشدياق في الجزيرة:

مع بداية الحرب الأوكرانية في 24 فبراير/شباط الفائت، أطلق الغرب حزمات متتالية من العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، وصل عددها إلى 6، وكان من ضمنها تجميد احتياطيات بلغت نحو 300 مليار دولار من أصل 640 مليار دولار من احتياطيات روسيا من الذهب والعملات الأجنبية خارج حدودها.

هذا التجميد أطلق الشرارة لجدال محموم لكنه خافت في أروقة دول العالم النقدية والاقتصادية حول مستقبل احتياطيات المصارف المركزية خارج الحدود وحول النظام النقدي الدولي كلّه المهيمَن عليه أميركيا بواسطة الدولار الأميركي.

هذا الجدال لم يكن غائبا عن حلقات البحث والنقاش بين المتخصصين قبل الحرب الأوكرانية، وإنما كان يُدار بهدوء وصمت ضمن الدول التي تشتكي من هيمنة الدولار عالميا، وفي المؤسسات المالية الدولية التي كانت تترقّب التحولات العميقة لبنية النظام النقدي العالمي.

لكن قبل الحديث عن تبعات العقوبات ومدى نجاحها وعن بنية النظام النقدي ومستقبل الروبل الروسي وبقية العملات؛ لا ضير من طرح أسئلة من صنف: لماذا تحتفظ المصارف المركزية باحتياطيات دولارية عدة خارج حدودها؟ وهل هذا أمر ضروري أو يمكن تحاشيه؟

الجواب البديهي والسريع على هذا السؤال يقول إن المصارف المركزية تلجأ إلى هذا الخيار تحسبا لتعرّض بلادها إلى هزة اقتصادية كبيرة، تماما مثل الهزة التي تعرض لها الاقتصاد الروسي في أول أسابيع الحرب، وبالتالي فإن هذه العملات الأجنبية (الدولارات غالبا) في الخارج تضمن تدفق الأموال إلى السوق المحلي، وتنفعها في شراء البضائع والسلع الأساسية مثل المحروقات والحبوب وغير ذلك.

هذه الفكرة كانت سائدة قبل العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران، وكذلك قبل العقوبات اليوم على روسيا، التي استطاعت أن تحتجز نصفها "بجرّة قلم". هذه الأحداث عادت لتسلط الضوء على ما يراه الخبراء "خطأً في هذا التفكير"، لأن الاحتفاظ باحتياطيات في الخارج -خاصة إن كانت بالدولار الأميركي- لا يمنع وزارة الخزانة الأميركية من اتخاذ إجراء بحقّها وحرمان الدولة المعاقبة من الاستفادة منها واستعمالها. هذا بدوره يطرح أيضا أسئلة عن المعايير المتبعة من أجل اتخاذ إجراءات مماثلة، فمن يحدد إن كانت هذه الدولة أو تلك تستحق حجز احتياطياتها؟ ووفق أي مفهوم وضمن أي حدود؟

كل هذه الأسئلة لا أحد يملك إجابات واضحة عنها، لكن الأكيد أن ما حصل مع روسيا كان مختلفا، ولم يكن يشبه ما حصل مع إيران. صحيح أن الخزانة الأميركية ودولا غربية أخرى جمّدت أموالا طائلة للمركزي الروسي، لكن العملة الروسية لم تستسلم للانهيار مع بداية الحرب، وسرعان ما انقلبت الآية وبدأ الروبل تسجيل المكاسب حتى وصل إلى مستويات لم يسجلها حتى قبل الحرب، رغم تجميد هذا الكم الكبير من الأموال.

حقق الروبل مكاسب تخطّت 55% مقابل الدولار الأميركي، وأصبحت العملة الروسية الرابح الأكبر من بين 31 عملة رئيسية حول العالم. وهذا دفع مراكز أبحاث اقتصادية إلى دراسة الأمر المستجد، وعدّته "جديرا بالملاحظة"، خاصة أن دولا عدة قبل روسيا حاولت السيطرة على ثبات عملتها وحركة رأس المال في ظروف أقل من عادية وليست في ظروف حرب، لكنها فشلت في تحقيق نتائج مماثلة، مثل تركيا والأرجنتين اللتين تكافحان من أجل التعافي النقدي.

مكاسب الروبل جاءت نتيجة سلسلة من إجراءات اتخذتها السلطات الروسية للدفاع عن ‏عملتها رغم العقوبات، هذه الإجراءات يمكن سردها بـ4، وكانت على الشكل التالي:

الانتقال إلى الروبل الروسي في صادرات الغاز للدول غير الصديقة، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي، إذ أذعنت بعض الدول وأعلنت قبولها التعامل بالروبل في الواردات من روسيا، وذلك لتفادي أزمات الطاقة التي تعد روسيا من أكبر مصدريها إلى القارة العجوز. هذا السبب كان من بين أهم ما دفع إلى حماية الروبل وتعزيز قيمته في السوق مقابل الدولار.
إلزام المصدرين في روسيا ببيع 80% من عائدات النقد الأجنبي في بورصة موسكو.
إعلان البنك المركزي الروسي مجموعة من الإجراءات (Capital Control) وذلك من أجل تحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي، وهذا ما حدّ من الطلب على العملات الأجنبية. ومن بين هذه الإجراءات أيضا الحدّ من سحب المواطنين المقيمين الدولارات من حساباتهم المصرفية، وكذلك منع المصارف من بيع العملات الأجنبية لصالح العملاء خلال الأشهر الستة المقبلة.
تقليص الواردات من البضائع، مع بلوغ فائض ميزان المدفوعات الروسي مستوى تاريخيّا، يتراوح بين 200 و300 مليار دولار نهاية العام.
ويقدّر الخبراء الاقتصاديون -إضافة إلى ذلك- أن يحقّق الروبل الروسي المزيد من المكاسب مستقبلا، وخصوصا في حال نفّذت الحكومة الروسية وعودها بربط الروبل بالذهب الأصفر. وفي نظرهم هذا الأمر سيدعم الروبل بشكل كبير جدا، وسوف يضمن استقراره وحتى صعوده مقابل الدولار واليورو على السواء.

بل أكثر من هذا، قد يتوجّه الروبل لينضم إلى عملات عالمية أخرى صاعدة ومنافسة للعملات العالمية التقليدية التي يتزعّمها الدولار الأميركي.

ففي دراسة أجراها صندوق النقد الدولي قبل نحو 3 أشهر -أي قبل الحرب الروسية على أوكرانيا- وقبل إذعان دول كثيرة لطلب روسيا شراء حاجاتها من الطاقة بالروبل؛ كشف الصندوق في الدراسة -التي عنونها بـ"شبح تآكل هيمنة الدولار"- عن أن الدولار الأميركي ما عاد العملة الوحيدة التي تجذب صناديق الاحتياطيات في المصارف المركزية حول العالم، التي باتت تفضّل تنويع محافظها من العملات الأجنبية بعملات غير تقليدية أخرى.

الدراسة تشير إلى أن حصة الدولار الأميركي في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية تتجه نحو المزيد من الانخفاض، فبعد أن كانت قبل نحو 20 عاما في حدود 70%، أمست مع نهاية عام 2021 نحو 59%. هذا الاتجاه لم يكن نتيجة تحولات العملة أو تغيّرات في أسعار الفائدة، وإنما "نتيجة جهود بذلتها العديد من المصارف المركزية من أجل تنويع محافظها عمدا وبعيدا عن العملة الأميركية".

وبالتالي، فإن أقل ما يعنيه هذا التحوّل هو أن احتياطيات بالدولار أقل ستُترجم بديهيا إلى هيمنة أميركية أقل!

أما التنويع الذي يتحدّث عنه صندوق النقد الدولي، فلم يكن نحو عملات تقليدية مثل اليورو الأوروبي أو الجنيه الإسترليني أو الين الياباني، وإنما صوب عملات مختلفة كليا وحديثة على التبادلات العالمية، مثل اليوان الصيني وعملات أخرى لدول ذات اقتصادات أصغر، ككندا وأستراليا والسويد وكوريا الجنوبية وسنغافورة، وذلك نتيجة تشابك العلاقات الاقتصادية بين دول كثيرة وبين هذه الدول المذكورة، ونتيجة الحاجة إلى عملات هذه الدول من أجل شراء صناعاتها وثرواتها.

لو قُدّر لدراسة صندوق النقد أن تُكتب بعد وقوع الحرب الأوكرانية، وتحديدا بعد فرض شراء الطاقة الروسية بالروبل، فإن العملة الروسية كانت ستحلّ حكما من بين هذه العملات، خاصة أن الحلول المقترحة للتخلي عن الطاقة الروسية مستقبلا قد باءت بالفشل إلى الآن، ولا يبدو أنها ستفلح، وهذا يعني أن الحاجة إلى الطاقة الروسية -وبالتالي إلى عملتها (الروبل)- لا غنى عنها.

هذا كله يدفع قدما صوب نظام نقدي دولي متعدد الأقطاب، سيدفن يوما ما هيمنة الدولار الأميركي لصالح صعود عملات أخرى متنوعة منافسة، وسيكون الروبل الروسي من بين هذه العملات الصاعدة.