ملاك حمود – الأخبار
هكذا، وببساطة، تخلّت الإكوادور عن جوليان أسانج. «حقّها السيادي» أجاز لها تجريده من حقّه في اللجوء وفق منطق رئيسها لينين مورينو. برّر الأخير خطوته بالقول إنّ مؤسّس «ويكيليكس»، «خرق أكثر من مرّة الاتفاقات الدولية وبروتوكولات الحياة اليومية». لكن هذا مجرّد «ذريعة لتبرير الخيانة… إنّ تخلّي الإكوادور عن جوليان أسانج قد يكون أكبر خيانة في تاريخ أميركا اللاتينية»، والتعبير لرئيس الإكوادور السابق رافاييل كورّيا.
صباح أمس، دخلت عناصر من الشرطة البريطانية بلباس مدني إلى مقرّ سفارة الإكوادور لدى لندن، لاعتقال أسانج الذي كان يتحصّن هناك منذ 2012. أدانته محكمة وستمنستر بـ«انتهاك شروط الكفالة البريطانية» بطلبه حقّ اللجوء لدى سفارة الإكوادور، وهي «جريمة» يُعاقب عليها بالسجن عاماً واحداً. لكن بيان شرطة لندن «سكوتلاند يارد»، الذي سبق الإدانة، بدا أكثر وضوحاً: «تمّ توقيف جوليان أسانج (47 عاماً) بالنيابة عن سلطات الولايات المتحدة عند الساعة 10:53، بعد وصوله إلى المقر المركزي لشرطة لندن. هذه مذكرة توقيف خاضعة للمادة 73 من قانون تسليم المطلوبين». وجاء التوقيف بناء على أمر قضائي يعود إلى حزيران/ يونيو 2012 صادر عن المحكمة نفسها بسبب عدم مثول أسانج أمامها.
وفي انتظار مثوله مجدداً أمامها في 2 أيار/ مايو المقبل، للنظر في تسليمه لواشنطن، وجّهت وزارة العدل الأميركية إلى مؤسس «ويكيليكس» تهمة «التآمر» (مساعدة المحلّلة السابقة في الاستخبارات الأميركية تشيلسي مانينغ، على القرصنة لاختراق أجهزة كمبيوتر حكوميّة من أجل سرقة معلومات سريّة تتعلّق بالأمن القومي، والحصول على كلمة السرّ التي تسمح بالوصول إلى آلاف الوثائق المصنّفة معلومات عسكرية سريّة). وأوضحت مذكرة الاتهام أنه بعد قبول أسانج مساعدة مانينغ «وفّرت (المحللة) لويكيليكس مئات الآلاف من الوثائق السرية» المتعلّقة بتحرّكات الجيش الأميركي في أفغانستان والعراق «بهدف نشرها على موقع» المنظّمة. ووضعت مانينغ قيد الحجز في آذار/ مارس الماضي، بعدما رفضت الإجابة عن أسئلة هيئة المحلّفين الكبرى المكلفة مراقبة التحقيق حول «ويكيليكس».
يخدم السماح بمحاكمته عبر إدارة ترامب أجندة الأخيرة ضد حرية الصحافة
التهمة الوحيدة التي كُشف عنها أمس، أي «القرصنة»، سُرّبت العام الماضي «عن طريق الخطأ»، لكن دون أن تُعرف طبيعتها. وجاء الاتهام الذي تصل عقوبته إلى السجن خمس سنوات، وفق «العدل» الأميركية، «مراعياً» لحساسيّة «حرية التعبير» التي تكفلها القوانين، إذ تجنّب القرار الاتهامي أيّ إشارة إلى «التجسّس»، رغم أنّ الحكومة الأميركية كانت حتى العام الماضي تنظر في إدانة أسانج بتهم «تجسّس» على خلفية نشر «ويكيليكس» آلاف الوثائق والبرقيات الأميركية السريّة.
لم تتخلّ واشنطن منذ 2010 عن المطالبة بمحاكمة أسانج. وفي 2016، خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، تعرّض مؤسس «ويكيليكس» لهجوم كبير بسبب تسريب رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بالمرشّحة الديموقراطية هيلاري كلينتون. لم يخفِ المُسرِّب نيّته إلحاق الضرر بكلينتون، لكنّه أصرّ على أنّ روسيا لم تكن ضالعة بالتسريبات. تلك التسريبات كانت موضع ترحيب من دونالد ترامب الذي شكر «ويكيليكس» قبل أن يعود بعد ثلاث سنوات لينكر معرفته بـالموقع! مايك بومبيو، النائب الجمهوري وقتها، كان من بين أبرز المرحّبين أيضاً، لكن سرعان ما ستتبدّل نبرته مع توليه منصب مدير «وكالة الاستخبارات المركزية» (سي آي إيه) بعد نحو عام (2017). وضع المدير الجديد للاستخبارات المركزية أسانج نصب عينيه كهدف قابل للتحقيق. وبدت الوكالة عازمة على معرفة المزيد في شأن ضلوع الرجل في التعامل مع الاستخبارات الروسية.
منذ ذلك الحين، بدأت «سي آي ايه» التجسس على «ويكيليكس»، وفق مسؤولين أميركيين تحدّثوا إلى «نيويورك تايمز»، أواخر العام الماضي. في الوقت نفسه، كان مسؤولو إنفاذ القانون الاتحاديون يعيدون النظر في صفة أسانج كصحافي، ويناقشون هل يجب توجيه الاتهام إليه بارتكاب جريمة؟ فأطلق بومبيو والمدعي العام السابق جيف سيشنز حملة عدوانية ضدّ أسانج، حيث سعى جواسيس ومحقّقون إلى معرفة علاقته بروسيا. ويُتوقع أن يمثل أسانج أمام محكمة فيدرالية أميركية بعد انتهاء إجراءات ترحيله من بريطانيا إلى الولايات المتحدة. لكن مسألة تسليمه لا تزال معقّدة، وخصوصاً أنّ الحكومة البريطانية منحت ضمانات «خطّية» لنظيرتها الإكوادورية بعدم تسليمه إلى بلد قد يواجه فيه خطر عقوبة الإعدام، والولايات المتحدة تنفذ جزئياً هذه العقوبة. لكن بإمكان لندن أن تتذرّع بحصولها على ضمانات من واشنطن بعدم تطبيق الإعدام بحقّه.
وسبق لإدارة باراك أوباما أن حاولت توجيه تهمة القرصنة لأسانج، في عهدٍ كان زاخراً بملاحقة المسرّبين، وأبرزهم تشيلسي مانينغ وإدوارد سنودن. لكنّ الموضوع يبقى قابلاً للتأويل، وخصوصاً أنّ أسانج لم يقم شخصياً بالقرصنة. والصحافيون عادة ما يشجعون مصادرهم على الإدلاء بمعلومات. الجدل في هذا الصدد قائم في الولايات المتحدة، فإدارة ترامب وعدد كبير من المشرّعين يتذرّعون بالأمن القومي، مقابل أصوات ترى أنّ كل ما فعله أسانج هو نشر الحقيقة، وإن كان عبر معلومات مسرّبة؛ وهو ما يقوم به أيّ صحافي. لذلك، إنّ السماح بمحاكمته عبر إدارة ترامب يخدم أجندة الأخيرة بالحدّ من حرية الصحافة، ولا سيما أنّ الرئيس دأب على وصف الإعلام بـ«عدو الشعب».