د.مصطفى علوش – الجمهورية
“لمستجير بعمرو عند كبوته كالمستجير من الرمضاء بالنار”
مثل عربي قديم
لا أعلم ما كان يدور في عقول هؤلاء المجانين وهم يسيرون مثل “الزومبي” نحو هدفهم، وهل كانت في رؤوسهم أدمغة أساساً وهم يُضحّون بأجسادهم للتفتّت، وبأشلائهم لتتناثر قطعاً عشوائية مع ضحاياهم، خدمة لأسطورة أدخلها في وجدانهم شيطان ما، قابع في دهليز محصَّن، ولست أفهم بالمطلق كيف أو يمكن لبشريٍّ ما أن يدخل على بشر آخرين مطلقاً الرصاص بشكل بهيمي على كل ما يتحرك، ثم يعيد الكرة ليتأكد أنه أدى مهمته المقدّسة التي أوكلها إليه شيطان من ديانة مختلفة عن الشيطان الآنف الذكر.
ولا يُمكن التأكيد من خلال معلوماتي عن طبيعة كلّ واحدٍ من هؤلاء على المستوى النفسي قبل وحين تنفيذهم الجريمة. ولكن بجردة مبدئية حول أعمار المنتحرين وغير المنتحرين القتلة، وخلفياتهم الإجتماعية، والمعطيات المتوافرة حول أدوات التنفيذ في الفكر الظلامي العابر الأديان، نرى أنّ هؤلاء في معظمهم كان من المحتمل أن ينتحروا أو أن يتسبّبوا بأذية بشر آخرين، بوسائل أخرى لولا أن أتَتهم الفرصة التي فتَحها لهم البغدادي أو أمثاله من طوائف أخرى كذاك المعتوه الذي فتح رشاشه على المصلّين في نيوزيلندا تحت راية شارل مارتيل.
يعني أنّه كان من الممكن أن ينتحر هؤلاء برصاصة في الرأس، أو بالسقوط من ارتفاع ما، أو بجرعة زائدة من المخدرات، أو في حادث سيارة تحت تأثير الكحول، أو في اشتباك بالسكاكين في خمارةٍ ما، أو أن يشتركوا في عصابة للقتل والإجرام للتعبير عن ذاتهم المغرقة في عداوة الذات وعداوة البشر وعداوة المجتمع…
لكنّ المهم هو ليس في تلك الشخصيات الرخيصة التائهة التي تُستدرج للقيام بالجريمة، فالتاريخ يحمل أمثلة لا حصر لها من أمثالها، مع فوارق في الأسباب والذرائع والعقائد. المهم هو ما يكمن في التداعيات، ومَن المستفيد من تلك الأعمال بشكل مباشر أو غير مباشر، بغض النظر عن الشعارات التي تُرفع أثناء الفعل الجرمي، والإنطباعات الأوّلية التي تُرسم لدى العموم بغض النظر عن الحقائق المثبتة، لأنّ الحدث يَعمي البصائر في لحظات الذروة.
وبصراحة لا يمكن لعاقل أن يطلب من المفجوع أن يتعقّل لحظة حاجته إلى الغضب والحداد وتفجير الأحاسيس. لكن بعد فورة الأحاسيس علينا العودة إلى التحليل الهادئ لفهم طبيعة جريمة نيوزيليدا.
هي على المستوى الفردي، قام بها مجرم يبحث عن مسوغ لتفريغ إجرامه وبالتالي إعطائه بعداً “أخلاقياً”، وهو بالضبط ما يفعله قتلة ومنتحرون لأسباب معاكسة.
بكل الحالات، فهي محاولة مكررة في كل مرة لإعطاء معنى “ترانسندالي”، أي فهم يتخطى المكان والزمان والواقع المادي، ليصبح الإجرام ذا طابع روحاني، مع الإعتذار ممّن يعتبر لفظة روحاني تعبيراً عن الخير! فمسألة تنفيذ أيِّ عمل إرهابي، حتى وإن انطلقت من عقائد محدّدة، ليست إلّا مرحلة تشبه رمشة عين في التاريخ، مع العلم بالضرر الكارثي الذي تُحدثه أثناء مرورها الخاطف. ويكفي أن نتذكّر السبعينات من القرن الماضي وكيف كان الإرهاب ذو الخلفية اليسارية يضرب أينما كان وكيفما كان، تحت شعارات أخرى، واليوم معظمنا لم يعد يتذكر أو يذكر تلك المرحلة ولا يرى حتى ضرورة لإخبار أبنائه عنها.
مَن المستفيد الآن إذاً من جريمة نيوزيلاندا حتى وإن كانت تلك الجريمة أتت رداً على جرائم المستفيد!؟
الجواب يأتي في ردة الفعل المنطقية المباشرة للمسلمين بشكل عام:
– ردة فعل ذات طابع طائفي ضد طائفة المعتدي بالمطلق، فيصبح كل أفراد ديانة أو عقيدة الجرم مجرمين مشاركين بالجريمة، حتى وإن لم يولدوا بعد، أو حتى إن دانوا الجريمة وتبرّأ دينُهم من فاعلها!
– سيأتي مَن يساوي ما قام به جزار نيوزيلندا بما قامت به “داعش”، بغض النظر عن حجم الجرائم.
– سيأتي مَن يسوغ عمل “داعش” بأنه عمل استباقي لنيات الآخرين الإجرامية.
– سيذهب البعض إلى اعتبار “التضحيات” التي قام بها الدواعش مسوغة أخلاقياً، وقد يأتي مختل آخر غير أبي بكر البغدادي، ليأخذ من مجزرة نيوزيلندا
ومن اضطهاد الروهينغا وقضية كشمير ومن شهداء ثورة الجزائر وعمر المختار في ليبيا وثورة المهدي في السودان، ذريعة جديدة لخلق “داعش” أكثر خبرة وقدرة وإجراماً، وفي ظل الفروقات الهائلة في العلوم والقدرات والثروات التي تتجمع في الغرب، فسيلقى نداء البغدادي القادم آذاناً صاغية بالآلاف.
وما على القارئ إلّا أن يستنتج كيف يفيد الإرهاب إرهاباً آخر في مساره العشوائي! أنا لا علم لي الى الآن ما حلّ بالبغدادي، وقد يكون قتل أو فرّ أو عاد سالماً إلى مشغليه إن صدّقنا نظرية المؤامرة، لكنه إن كان حيّاً لقال: “شكراً جزّار نيوزيلندا، فبأمثالك يحيا أمثالي!”