صحيفة الجمهورية
يعطي التدفق المتزايد للموفدين الدوليّين الاميركيين والاوروبيين في اتجاه بيروت، أنّ لبنان موضوع على منصّة الإهتمام الدولي في هذه الفترة، خلافاً للصورة التي كانت قبل تأليف الحكومة، وكان فيها لبنان خارج جدول أعمال الدول الكبرى، وهو الأمر الذي يدفع الى طرح اكثر من سؤال حول سرّ هذا الاهتمام الدولي المتزايد وأبعاده، خصوصاً أنّه يأتي عشيّة استحقاقات داخلية، سياسية واقتصادية، متوازية مع تطورات متسارعة على المستوى الاقليمي، ومحاولات دؤوبة لبناء قواعد اشتباك جديدة في أكثر من مكان في المنطقة، وإخضاعها لمقاربات جديدة، إن على صعيد الملف الايراني والضغوط والعقوبات التي تمارس على طهران، أو على صعيد الملف الفلسطيني في ظل الحديث المتزايد عن «صفقة القرن»، وصولاً الى الملف السوري الذي بدأ ينحى في الفترة الاخيرة نحو التصعيد، خلافاً للاجواء التي تحدثت عن أزمة توشك ان تنعطف نحو الحل السياسي، بالتزامن مع القرار الاميركي بالانسحاب، الذي لم يحصل بعد، من سوريا.
بالتأكيد انّ لكل من هذه الزيارات هدفها، فالاميركيون يقاربون الواقع اللبناني من زاوية الضغط على «حزب الله» والتحضير لمزيد من الاجراءات العقابية ضده في الفترة المقبلة، على حد ما يعلن المسؤولون الاميركيون، وذلك في سياق توجّه الادارة الاميركية نحو تضييق الخناق السياسي والتمويلي على الحزب، والحؤول دون تمكّنه من الامساك بالواقع اللبناني بدعم وتنسيق مع ايران.
وضمن هذا السياق جاء اعلان السفير الأميركي الجديد في الرياض الجنرال جون أبي زيد، امس، أنّ «تزويد إيران لـ«حزب الله» بالسلاح يهدد ديموقراطية لبنان الهشّة».
وضمن هذا السياق ايضاً اندرجَت الزيارات التي تكثفت خلال الشهرين الماضيين، لمسؤولين اميركيين، بدءاً بقائد القيادة المركزية الاميركية الجنرال جوزف فوتيل، ثم نائب وزير الخزانة الاميركية لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب مارشال بيلينغسلي، وبعده وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية دايفيد هيل، وآخرهم حالياً مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد، الذي يمهّد لزيارة وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو الى بيروت بعد أيام.
قلق بريطاني
ويتقاطع الحضور البريطاني في بيروت مع التوجه الاميركي، وهو ما عكسته زيارة وزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط في الخارجيّة البريطانيّة اليستر بيرد، والتي تأتي غداة موقف الحكومة البريطانية بالدمج بين ما وصفتهما الجناحين العسكري والسياسي لـ«حزب الله» وتصنيفه منظمة إرهابية.
وقالت مصادر ديبلوماسية لـ«الجمهورية» انّ زيارة بيرد استطلاعية، وتهدف في أساسها الى شرح الموقف البريطاني، الذي يتطابق مع الموقف الاميركي، الرامي الى محاصرة الحزب، حيث تؤكد لندن قلقها من تعاظم قوة «حزب الله»، وخوفها من تهديده لاستقرار لبنان والمنطقة. وهو أمر تناقض مع الموقف اللبناني الرسمي الذي تبلغه بيرد، والذي سبق ان عبّر عنه رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الخارجية جبران باسيل. كما انّ زيارة بيرد تهدف الى تطمين للمسؤولين اللبنانيين بأنّ قرار اعتبار «حزب الله» منظمة ارهابية، لا يؤثر على العلاقة الثنائية بين البلدين، ولا على علاقة الحكومة البريطانية بالحكومة اللبنانية.
المانيا: النازحون
واللافت في جانب آخر، زيارة وزير الدولة لدى وزارة الخارجية الاتحادية الالمانية نيلز انين، حيث قالت مصادر مواكبة للزيارة لـ«الجمهورية»: انها تنطوي على بُعدين. الأول، موضوع النازحين السوريين حيث تعكس المانيا رغبتها الشديدة في إنهاء هذا الملف بما يعيد هؤلاء النازحين الى بلادهم، الامر الذي من شأنه ان يزيل هذا العبء عن لبنان، كما على المانيا التي تتحمل عبئاً كبيراً من آلاف النازحين الموجودين لديها. خصوصاً انّ المانيا تعتبر انه لا بد من توفير الظروف المؤاتية لإعادتهم، مع انّ الظروف الحالية مختلفة عن الظروف التي أدت الى هذا النزوح. مع الاشارة في هذا السياق الى انّ المانيا لم تلمس حتى الآن، من الجانب السوري، اي توجّه جدي لاتخاذ القرار بإعادة النازحين.
امّا البعد الثاني للزيارة فيرتبط بمؤتمر «سيدر»، والذي تأتي زيارة بيرد في سياق حَث المسؤولين اللبنانيين على انخراط لبنان جدياً في التحضيرات المطلوبة لترجمة هذا المؤتمر، خصوصاً انّ الالمان، كما سائر الأوربيين، باتَ يعتريهم الشك من جدية الحكومة اللبنانية في تمهيد الطريق نحو الاستفادة من تقديمات «سيدر».
«سيدر».. تشكيك أوروبي
وحال الالمان كحال سائر الاوروبيين الذين بدأوا يقاربون «سيدر» كأمر يترنّح وأصبح آيلاً للسقوط في هاوية الفشل. ويبرز في هذا السياق موقف فرنسا التي عبّر بعض مسؤوليها لمسؤولين لبنانيين عن خيبة أملهم من الطريقة التي يتعاطى فيها لبنان مع موضوع «سيدر»، وتحدث المبعوث الفرنسي المكلّف متابعة تنفيذ مقرّرات مؤتمر سيدر السفير بيار دوكان، في زيارته الاخيرة، انه لمس من المسؤولين اللبنانيين أجواء غير مشجّعة.
وقالت مصادر مواكبة لهذا الملف لـ»الجمهورية» انّ دوكان سيعود الى بيروت قبل نهاية الشهر الجاري لمتابعة مهمته، والوقوف على المنحى الذي سيسلكه اللبنانيون نحو الاستفادة من مؤتمر سيدر.
وعلمت «الجمهورية» أنّ الاشارات السلبيّة والتشاؤمية الاوروبيّة حول «سيدر» ما زالت تتوالى، وتعكس التشكيك الواضح بجدية الجانب اللبناني في الايفاء بما التزم به في مؤتمر باريس. وجديد هذه الاشارات سمعها عدد من رجال الاعمال اللبنانيين من جهات ديبلوماسية هولندية، قبل يومين، أكّدت على ما مفاده انّ اللبنانيين غير جديين، ونحن حتى الآن لا نصدّق انّ اللبنانيين سيجرون الاصلاحات المطلوبة، لأنّ الطاقم هو ذاته وسيعدّ ذات الطبخة، كما اكدت انّ سيدر لن يقدّم شيئاً قبل أن «يحسّن لبنان نفسه».
هذا الموقف التشكيكي تؤكد عليه باريس، المعنية الاولى بـ«سيدر»، حيث قالت مصادر موثوقة لـ«الجمهورية» انّ السفير الفرنسي في لبنان برونو فوشيه شدّد، خلال لقاء مع شخصيات لبنانية قبل يومين، على اهمية ان يبني لبنان الارضية الصحيحة والملائمة لتلقّي نتائج «سيدر».
ونَقل بعض الشخصيات انّ فوشيه تكلم باللغة العربية، حينما قال ما مفاده انّ لبنان لن يحصل على شيء إذا استمر بالتعاطي غير الجدي مع متطلبات سيدر.
وممّا سمعته تلك الشخصيات «انّ لبنان يسير عكس السير، بحيث يقول انه يريد خفض عجز الموازنة، فإذا به يتخذ قراراً في مجلس الوزراء بإعطاء زيادات لأساتذة متمرّنين. ثم يأتي وزير الصحة ويجول على كل مستشفيات لبنان ويقول انه يريد ان يزيد موازنة الصرف، اضافة الى انّ الجلسة التشريعية (التي عقدت أمس)، من بين جدول اعمالها بنود تؤدي الى نفقات اضافية على الدولة اللبنانية، فكيف سيتم هذا التخفيض»؟
الإثنا عشرية
من جهة ثانية، خرجت الجلسة التشريعية امس بتسوية الامر الواقع في ما خصّ الانفاق وفق القاعدة الاثني عشرية، وتقرّر ان يمتد الانفاق وفق هذه القاعدة حتى 31 ايار المقبل فقط، على أن يُصار الى تقديم مشروع موازنة 2019 قبل هذا الموعد لكي يجري إقرارها والانفاق بموجبها.
وبذلك، يكون المجلس قد وجّه رسالة إيجابية الى المجتمع الدولي في شأن الحرص على احترام وتنفيذ تعهدات لبنان في مؤتمر «سيدر»، اذ انّ الانفاق وفق القاعدة الاثني عشرية يعني فيما يعنيه، انّ مسألة خفض العجز سنوياً بنسبة 1 في المئة لن تتم.
ومع انّ المجلس تعهّد بهذا الخفض، الّا أنّ علامات استفهام باتت مطروحة حول القدرة على الالتزام بهذا الخفض، خصوصاً انّ الاشهر الخمسة الاولى من 2019 (حتى نهاية أيار) ستمرّ بلا أي خفض في الانفاق، وسيكون التركيز، اذا صدقت النيّات والالتزامات، على 7 أشهر فقط لتحقيق هذا الانجاز.
المجلس الاعلى
من جهة ثانية، وفي خطوة جرى ربطها بما تسمّى «الحرب على الفساد»، إنتخب مجلس النواب حصته السباعية في المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، على ان ينتخب لاحقاً حصته الخماسية في المجلس الدستوري وكذلك حصته الخماسية في المجلس الوطني للاعلام.
وفاز بالتزكية الاعضاء الاحتياطيون، وهم النواب: علي عسيران ورولا الطبش وسليم عون. امّا التشكيلة الأصيلة للمجلس فضمّت كلّاً من النواب: جورج عقيص، علي عمار، فيصل الصايغ، جورج عطالله، سمير الجسر، هاغوب بقرادونيان والياس حنكش.
مضبطة اتهام!
يأتي ذلك في وقت تسلّم ديوان المحاسبة من وزارة المالية، الحسابات المالية والأرقام منذ سنة 1993. فيما قدّم مدير عام وزارة المالية آلان بيفاني أمس مضبطة اتهام في حق الكثيرين، ولو انّ الرجل حرص على عدم تسمية أحد، أو إصدار الاحكام. لكنّ بيفاني تحدث بوضوح عن فضائح تثبت ان لا وجود لهيكلية دولة حقيقية.
وقد كشف بيفاني بعض التَسيّب اعتباراً من عام 1993، وأكد أنّ «الانظمة كانت تسمح بالتلاعب الدائم (مستند تغيير القيود) والقروض لا تسجّل، وحساب الدين ينقصه مليارات الدولارات الواقعة على أكتاف الأجيال الصاعدة، وتوزّع سندات خزينة من دون قيدها، ويوجد سلف موازنة لم تسدد منذ التسعينات وتمكنّا من تحصيل أموالها بفضل عملنا، لم تكن الشيكات تحصّل وقد حصّلناها بعد مرور زمن طويل، وقد كشفنا أيضاً حوالات تمّ تزويرها بسبب إمكانية التلاعب بالانظمة وعدم ربطها ببعضها في ذلك الحين، كما اكتشفنا فوائد على القروض غير مسجلة بشكل صحيح وتم تسديد قرض غير مقرّ بقانون من مجلس النواب. وقد كشفنا ايضاً أنّ أحد المستشارين المقرّبين، الذي أُعطي كامل الصلاحيات في ملفي التقاعد والبلديات، كان يحوّل أموال المتقاعدين إلى حسابه الشخصي، وقد تمّ توقيفه».
كما كشف بيفاني انه أحال الى الأجهزة الرقابية، بشكل موثّق كامل ملفات الهبات، وسلفات الخزينة وسلفات الموازنة والقيود المؤقتة والصندوق والمصرف والقروض والسندات والأموال المودعة وغيرها، وكل منها حافل بالمصائب. وحولت الى الهيئات الرقابية ملفات الهبة الأوروبية 1 والهبة الأوروبية 2 وتزوير الحوالات، وحوالات الدفاع المدني وتزوير أوامر قبض وشيكات مرتجعة استبدلت، وتسديد قرض غير مسدّد بقانون، وسلف الموازنة العالق تسديدها في حساب الامانات، وسلفة ملتزم وتزوير في الميكانيك وغيرها وغيرها».
وقال: «ما أنجزناه هو إعادة تكوين الحسابات المالية وكشف الأخطاء والمشاكل والعجائب فيها، وإحالتها بحسب الأصول الى السلطات المعنية. امّا مسألة ما سمّي 11 مليار دولار، فهي من صلاحيات المجلس النيابي، وليست سوى جزء بسيط من مسألة الحسابات».