ميسم رزق – الأخبار
قد يكون البيان الختامي لمؤتمر الرئيس فؤاد السنيورة هو المادة الأساسية التي استعان بها للرد على تهمة نسبها إلى نفسه قبل أن ينسبها إليه أي أحد في قضية الحسابات المالية. خرج السنيورة شاهراً سيفه في وجه أطراف التسوية الرئاسية، مغلِّفاً دفاعه عن نفسه بمجموعة أرقام لا وجهة قانونية لها… وحصر كل القضية بمبلغ الـ11 مليار دولار، محاولاً رفع المسؤولية عن كاهله وتحميلها للمدير العام لوزارة المالية!
كانَ يكفي فؤاد السنيورة أن يعلو صوتُ التصفيق في نقابة الصحافة، ويلوّح له البعض بأن ما يقوله «عظيم» حتى يرفَع سقف التحدّي.
رُبما اختلطَ الأمر على رئيس الحكومة الأسبق. زلّة لسان نقيب الصحافة عوني الكعكي، باستبدال كلمة «شهاب» بدلاً من السنيورة أحالت بعض الحاضرين تخيّلاً إلى زمن الرئيس فؤاد شهاب. استأنس نائب صيدا السابق بالفكرة وصدّقها، فحاول تقديم نفسه كرجُل دولة ومؤسسات. لكنه سريعاً حشرَ ردّه المالي بينَ خانتين: سياسية وطائفية، ليوحي أن الحملة التي يتعرّض لها مؤامرة كونية، مذكّراً بحقبة «الوصاية السورية» حينَ كادَ أن يزجّ به في السجن بعد فضيحة محرقة برج حمود. قدّم مُطالعة هي عبارة عن أرقام بلا وجهة حقيقية أو قانونية، متداخلة في سياق سياسي. واستعاض عن صورة التسعينيات بصورة جديدة يُمثلها حزب الله والتيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية ميشال عون، بدلاً من «النظام السوري» ورئيس الجمهورية السابق إميل لحود. وللاستناد أكثر إلى المظلومية المذهبية، وضع قضية الحسابات المالية في إطار الهجوم على كل حكومات الرئيس الراحل رفيق الحريري.
هكذا يُمكن اختصار المؤتمر الصحافي للسنيورة أمس، الذي استكمل عملية التضليل من خلال التركيز على مبلغ الـ11 مليار دولار التي أنفقتها حكومته الأولى (2005 – 2008) من دون سند قانوني لجهتين: أولاً، لأنها أنفقت من دون قانون موازنة، وثانياً لأنها تجاوزت القاعدة الاثني عشرية. ومكمن التضليل أن الملف المطروح في البلاد، منذ جلسات الثقة للحكومة الحالية الشهر الفائت، هو ملف الحسابات المالية للدولة، منذ عام 1993، وإعادة تكوينها بسبب الثُّغرات الجمّة التي تعتريها.
نواب ووزراء سابقون وحاليون من الذين كانوا صقوراً يومَ كان ما يُسمّى فريق ١٤ آذار في عزّه، حضروا إلى قاعة نقابة الصحافة. بعضهم «شهود» على سياسة السنيورة في وزارة المالية ورئاسة الوزراء، تحديداً عام 2006. وبعضهُم مستقبليون كانوا في صلب جناحه حين انقسَم التيار بين مؤيد للتسوية الرئاسية ومعارض لها. في الشكل، تبرّع هؤلاء بعراضة تضامن، و«قادتهم» رئيسة كتلة المستقبل النائبة بهية الحريري التي غادرت المؤتمر قبلَ انتهائه.
في السياسة، استغلّ الوزير الأسبق للمال منبر النقابة للتصويب على شركاء التسوية الرئاسية التي كان من أشد المعارضين لها. طاول الرئيس عون حين تحدث عن الذين «يعدّلون الدستور بالممارسة». «لطش» الرئيس سعد الحريري بالقول إن فؤاد السنيورة «لا يقدم التنازلات». وخلص تقريره ببيان ختامي ضد حزب الله يلخص النزاع السياسي في لبنان منذ ١٤ عاماً. وقد ضمّ إليهم رئيس مجلس النواب نبيه بري، الأمر الذي يدلّ على عمق الأزمة التي يمرّ فيها، والتي دفعته أمس إلى تحويل الأنظار عن القضية الحقيقية «فضيحة الحسابات المالية للدولة»، وحصر الموضوع بمبلغ الـ ١١ مليار دولار، أولاً. ومن ثم رفع المسؤولية عن كاهله، محاولاً تحميلها للمدير العام في الوزارة. ربما لأن الأخير كان على رأس الفريق المُساعد في إعداد المستندات التي تدين إدارة السنيورة لوزارة المال، وخاصة بين عامي 1993 و1998.
أما في الأرقام، فتبيّن أن الأخير في معرض رده على المستندات التي أثارها النائب حسن فضل الله، خلط الحابل بالنابل، عن سابق إصرار، بهدف تضييع الرأي العام. فما قاله في المؤتمر وحصره بمسألة مبلغ الـ11 مليار دولار، لا علاقة له بملف الحسابات المالية الذي أصبح في عهدة القضاء. وليس أدل على ذلك من استغرابه كيف وصل تقرير وزير المالية إلى النائب فضل الله، علماً أن ما قدمه الأخير إلى القضاء أول من أمس هو مستندات تعود إلى عام 2010، لا التقرير الذي لم يقدّمه وزير المال لأحد بعد.
أول خطأ وقع فيه السنيورة حين تحدث عن إعداد قطوع حسابات الموازنة وحساب الخزينة منذ عام ١٩٧٩ ولغاية عام ١٩٩٢، أي لمدة ثلاثة عشر عاماً، نظراً لفقدان المستندات، ما أدى حينها إلى إصدار قانون في مجلس النواب يجيز صرف النظر عنها، علماً أن وزارة المالية، خلال إعداد التقارير استطاعت إنجاز بعض منها!
وضع السنيورة قضية الحسابات المالية في إطار الهجوم على كل حكومات الرئيس رفيق الحريري
حاول السنيورة اختصار كل القضية بمبلغ الـ١١ ملياراً، محاولاً إقناع الجميع بأن هذا المبلغ يتعلّق بالقاعدة الاثني عشرية للإنفاق، إذ إن مجموع الإنفاق بين عامي 2006 و2009 تخطّى المجموع المسموح به على أساس هذه القاعدة بمبلغ قدره 11 مليار دولار، وهو عبارة عن فروقات في عجز الكهرباء والدَّين العام. ولم يجِد السنيورة تبريراً لهذا الصرف غير القانوني، إلا بالقول إن الموازنات كانت ترسل إلى مجلس النواب، لكن رئيس المجلس كان يرفض تسلّمها، وإن الصرف على القاعدة الاثني عشرية، كان وفق موازنة عام ٢٠٠٥، مع فارق هو الزيادة في النفقات.
أما الأمر الآخر والبارز، فكان في محاولته التجني على المدير العام لوزارة المالية ألان بيفاني. إذ قال إنه «كان موجوداً في موقعه هذا منذ عام 1999، وهو الذي كان وما زال مشرفاً ومسؤولاً وبشكل كامل ومباشر عن كل أمر يمتّ بصلة إلى مديرية المالية العامة المسؤولة عن مديريات الموازنة والمحاسبة العامة والواردات والصرفيات والخزينة والديوان والضريبة على القيمة المضافة، وبالتالي هو الذي ينبغي أن يُسأل عن الحسابات وعن تلك القيود التي أشار إليها أحدهم» (المقصود النائب فضل الله). وإذا جاز للوزير، أي وزير، صاحب السلطة في الوزارة ورأس الهرم فيها، التنصّل من مسؤولياتها ورميها على موظفين فيها، ولو كانوا برتبة مدير عام، يبدو أنه غاب عن بال السنيورة أن بيفاني لم يكن موجوداً في الفترة ما بين عامي 93 و98، حين كان الفريق الإداري والاستشاري كله خاضعاً بالكامل لوزير الدولة للشؤون المالية حينذاك، أي السنيورة نفسه، ولوزير المال الأصيل، أي الرئيس رفيق الحريري. وقد كانت هذه السنوات بحسب المعلومات، هي الساحة الرئيسية لكل الارتكابات التي حصلت في عهد السنيورة من دون محاسبة، واستمرت فيما بعد.
بعد ذلك استفاض السنيورة بجداول وأرقام، قبل أن يصِل إلى الخاتمة، وهي عبارة عن بيان سياسي ضد حزب الله هدف من خلاله إلى تعبئة كل المعارضين للحزب بالقول إن الأخير «يحاول من خلال هذه القضية التستر على مأزقه السياسي وتورطه في النزاعات الإقليمية والدولية، معرِّضاً مصالح لبنان واللبنانيين للمخاطر، معطلاً مؤسساتها ومواعيدها الدستورية ومنع دوران العجلة الاقتصادية بصورتها الطبيعية»!