محمد وهبة – الأخبار
يبدو أن التعاميم التي يصدرها مصرف لبنان وضعت ليتم خرقها من قبل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. هذا الأمر حصل فعلاً في ما خصّ التعميم رقم 32 الذي يفرض على المصارف أن تحتفظ بمركز قطع مدين بنسبة 1% من الأموال الخاصة الأساسية. لكن سلامة، وبتوقيع منه، ومن دون أي تبرير أو الاستناد إلى موجبات قانونية أو سوقية، يسمح للمصارف أن ترفع هذه النسبة إلى 5% من أجل مساعدتها على زيادة ربحيتها
خلافاً للتعميم الأساسي رقم 32، قرّر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أن يسمح للمصارف برفع نسبة الأموال المسموح لها استعمالها في عملية شراء الدولارات من 1% من الأموال الخاصة الأساسية إلى 5% من هذه الأموال. اللافت أن سلامة لم يتطرق إلى أي مبررات تدفعه إلى القيام بهذه المخالفة للتعاميم التي يصدرها المجلس المركزي لمصرف لبنان، ولم يحدّد مهلة زمنية لإنهاء هذا التجاوز، بل قرّر أن يقدّم هدية مجانية للمصارف تسهم في رفع أسعار الفائدة على الدولار في السوق، وتسهم في زيادة عمليات المضاربة على الليرة، وتخفف وطأة نقص السيولة بالليرة الذي تعاني منه المصارف في ظل سياسته لتجفيف السيولة وإحكام قبضته عليها. يبدو أن هناك مصارف بسمنة ومصارف بزيت.
المخالفة تحصل بطريقة بسيطة جداً. يرفع رئيس مجلس إدارة المصرف التجاري كتاباً إلى سلامة مباشرة، ويطلب منه السماح له بتجاوز التعميم المذكور. المثير للاستغراب في بعض هذه الكتب أن المصارف تحدّد موضوع الكتاب بالإشارة إلى أنه عبارة عن «طلب ترخيص»، فيما بعضها الآخر يقرّ بأن الأمر يتعلق بـ«التجاوز». بعض الكتب المرفوعة «يلتمس موافقة سعادتكم» من دون أي مبررات إضافية، وبعضها الآخر يطلب السماح له بالمخالفة بالاستناد إلى «متطلبات السوق».
بدوره، سلامة يوقع الكتاب بكلمة واحدة «موافق»، ثم يذيّل هذه الكلمة بتوقيعه الشخصي ويذكر تاريخ التوقيع.
هذه المخالفة تكرّرت أكثر من مرّة في مطلع شهر شباط. بحسب مصادر مطلعة، فإن المصارف طلبت مخالفة التعميم 32، ووافق سلامة ببساطة. كأن المصارف هي الآمر الناهي، وهي التي تفرض التدابير والإجراءات النقدية في لبنان، وهي التي تقرّر نيابة عن السلطات الناظمة والرقابية في القطاع المصرفي، ما يجب أن يحصل وكيف يجب أن يحصل. لكن اللافت أن غالبية الكتب المرسلة إلى سلامة كانت من كبار المصارف، فيما تبيّن أن هناك مصارف صغيرة ليس لديها علم بما يحصل بين سلامة والمصارف الكبيرة.
على أي حال، المخالفة تتعلق بالمادة الثانية من التعميم الأساسي رقم 32، والمعدّلة بموجب القرار الوسيط رقم 11708 تاريخ 28 شباط 2014. تنصّ هذه المادة على أن «يُسمح للمصارف الاحتفاظ بمركز قطع عملاني صافي، مدين أو دائن، لا يتعدّى في أي وقت نسبة 1% من مجموع عناصر الأموال الخاصة الأساسية الصافية، على أن لا يتعدّى مركز القطع الإجمالي لديها في الوقت نفسه ما نسبته 40% من مجموع الأموال الخاصة الأساسية الصافية، وعلى أن لا تكون المصارف المعنية متقيدة بصورة متزامنة ومتلازمة بنسبة الملاءة المتوجبة».
بعيداً عن الصياغة التقنية لهذه المادة، فإنها، بحسب المصرفيين، تتعلق بآلية شراء وبيع الدولارات من قبل المصارف. هذه الأخيرة تشتري الدولارات وتبيعها للزبائن عند الطلب وتسجّل العملية في قيود المصرف ضمن بند «مركز القطع العملاني الصافي المدين». تنفيذ العملية يتطلب أن يكون لدى المصرف المعني السيولة الكافية بالليرة ليدفع ثمن الدولارات التي يشتريها، سواء بهدف الاحتفاظ بها أو بيعها للزبائن. أما مركز القطع العملاني الصافي المدين، فهو يحدّد حجم العمليات المتاح تنفيذها للمصارف، وبالتالي فإن المصارف لا يمكنها أن تشتري دولارات بقيمة تفوق ما نسبته 1% من أموالها الخاصة الأساسية حتى لو كانت لديها السيولة.
الهدف من تحديد كمية الدولارات المسموح لكل مصرف شراءها، أن تكون لدى مصرف لبنان القدرة للسيطرة على المضاربات التي تجري على عمليات سعر صرف الليرة ومنع تحويل كميات كبيرة تؤثّر سلباً في مخزون مصرف لبنان من الدولارات، أو ما يعرف بـ«الاحتياط بالعملات الأجنبية» الذي يتيح له الحفاظ على تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار.
إذاً، العملية تأتي في إطار السياسات النقدية التي تخدم استمرار النموذج النقدي القائم في لبنان منذ تثبيت سعر صرف الليرة عام 1994. لكن السؤال المطروح اليوم، هو لماذا تكريس مخالفات من هذا النوع وبأي هدف؟ هل هناك أي خطر على سعر صرف الليرة يدفع مصرف لبنان إلى القيام بمثل هذه المخالفة؟ لماذا لا يصدر مصرف لبنان تعميماً يعدّل فيه النسب المسموح فيها لمراكز القطع العملانية الصافية المدينة بدلاً من إعطاء موافقات استثنائية لمصارف محددة؟ وما هي النتائج السوقية لهذه القرارات؟
يستغرب بعض المصرفيين حصول مثل هذه «الاستثناءات»، وهم يعتقدون أن تجاوزات سلامة مرتبطة بما حصل في الفترة الماضية لجهة الطلب الكثيف على الدولار. ففي الأشهر الأخيرة، لا سيما في آخر شهر من السنة الماضية وأول شهر من السنة الجارية، ارتفع الطلب على الدولار إلى حدود كبيرة بسبب المخاوف من حصول أزمة مالية – نقدية. تسبّب هذا الأمر برفع سعر فائدة «الانتربنك» لأن المصارف لم يكن لديها السيولة الكافية بالليرة اللبنانية لشراء الدولارات التي يطلبها الزبائن سواء لحاجات تجارية، أي الاستيراد، أو لحاجات شخصية من أجل ضمان قيمة أموالهم في ضوء ارتفاع احتمال حصول أزمة.
قرارات سلامة المخالفة للتعاميم سترفع أسعار الفائدة بسبب التنافس بين المصارف لجذب ودائع بالدولار
وفي ضوء معاناة المصارف من نقص حاد في السيولة بالليرة، اندفعت إلى الاقتراض من بعضها البعض لتلبية حاجات الزبائن. فائدة الاقتراض من يوم ليوم بين المصارف (انتربنك)، بلغت في بعض الأوقات 120% (في فترة احتجاز الرئيس سعد الحريري في السعودية)، وارتفعت أيضاً إلى مستويات قياسية في الأشهر الماضية لتصل إلى أكثر من 85%. هذا الوضع عانت منه المصارف الكبيرة بشكل خاص، إذ إنها كانت توظف سيولتها لدى مصرف لبنان من أجل زيادة ربحيتها، ثم تنخفض هذه الربحية عندما تضطر أن تقترض من المصارف التي تملك السيولة. لذا، فإن توسيع هامش مراكز القطع من 1% إلى 5% يسمح لها بامتصاص كمية أكبر من الدولارات عند توافر السيولة بصرف النظر عن الطلب الظرفي على الدولار، أي أنها ستتخلص جزئياً من عبء فائدة الانتربنك وستتمكن أيضاً من زيادة أرباحها. فقد بات بإمكان المصارف استعمال السيولة بالدولار لتلبية طلبات الزبائن من جهة، وللمشاركة بهامش أكبر في الهندسات الجارية لدى مصرف لبنان والتي تدرّ أرباحاً طائلة عليها.
هذا الوضع الشاذ خلق مشكلة أخرى، إذ إن زيادة الهامش من 1% إلى 5% يؤدي إلى زيادة حدّة التنافس على الدولارات المتوافرة في السوق، أي أن قرارات سلامة المخالفة للتعاميم، ستؤدي إلى رفع أسعار الفائدة بسبب التنافس بين المصارف على استقطاب الودائع بالدولار. فالمصارف سترفع الفائدة لجذب ودائع بالدولار وتغريها بفوائد أعلى على إيداع الأموال بالليرة اللبنانية من أجل امتصاص الدولارات. بمفهوم المصرفيين وتعابيرهم هذا يعني أن الوضع النقدي لا يزال سيئاً. لكن يبقى هناك سؤال بلا إجابة: لماذا لم يعدّل مصرف لبنان التعميم 32 وسمح بمخالفة القرارات التي يصدرها مجلسه المركزي؟