بقلم: دافيد عيسى
سياسي لبناني
دولة الإمارات هي مركز الحدث في المنطقة هذا الشهر، والحدث ليس سياسياً ولا أمنياً وإنما من نوع آخر قلما شهدته منطقة الشرق الأوسط، تمتزج فيه المعاني والمفاهيم الدينية والحضارية والإنسانية وتطل في أبهى حللها.
الحدث هو قدوم قداسة الحبر الاعظم البابا فرنسيس إلى الإمارات في أول زيارة لرأس الكنيسة الكاثوليكية لدولة خليجية في التاريخ، ولا مبالغة في القول إنها زيارة تاريخية واستثنائية في معانيها وأبعادها وقيمتها الدينية والحضارية والإنسانية.
زيارة قداسة الحبر الاعظم إلى الإمارات هي أكثر من زيارة إنها رسالة سلام ومحبة تحمل في طياتها القيم السامية، قيم الحوار والانفتاح والاعتدال والمساواة والعدالة، وتشكل أبلغ ردّ على التطرف والعنف والكراهية التي تسللت إلى المنطقة العربية وعاثت فيها خراباً وتدميراً.
هذه الزيارة البابوية لم تكن لتحصل لو لم تكون الإمارات بيئة حاضنة لها، ولو لم تكن هذه الدولة الخليجية الرائدة حاملة لقيم التسامح والسلام والتعددية واحترام الإنسان والمساواة بين أفراد المجتمع، حتى غدت دولة نموذجية ومثالاً يحتذى ليس فقط على صعيد التطور والحداثة ومواكبة العصر وإنما أيضاً وخصوصاً على صعيد زرع بذور المبادئ والقيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية ونشر أجواء الانفتاح والحوار والتفاعل الإيجابي بين الأديان والثقافات والحضارات.
أو ليست الإمارات “دولة عالمية” لما تحتضن وتستضيف من أناس مختلفين وفدوا من كل أصقاع الأرض وأنحاء العالم، يعيشون على أرضها ومن خيراتها ويتعايشون بين بعضهم بسلام وطمأنينة ورفاهية تحت سقف دولة تتقن قواعد المساواة والعدالة الاجتماعية واحترام الإنسان وخدمة المجتمع.
زيارة قداسة الحبر الأعظم إلى الإمارات لا تأتي من فراغ وليست حدثاً معزولاً في المكان والزمان، وإنما هي تأتي في سياق مسار سلكته دولة الإمارات مع مؤسسها الرجل العظيم الشيخ زايد رحمات الله عليه ولا تزال حتى اليوم مع أولاده الشيخ خليفة
بن زايد رئيس الدولة والشيخ محمد بن زايد ولي عهد ابو ظبي، ونهج دأبت عليه وعملية تطور وتقدم لا رجعة فيها إلى الوراء ومسيرة حافلة بالإنجازات، وفي كل ذلك كان الإنسان هو المحور والهدف وكانت النتيجة أن مجتمعاً متعدد الانتماءات والأعراف يعيش في استقرار وينعم بحياة كريمة وباحترام تكفله قوانين الدولة بالعدل والاحترام والمساواة.
عندما تم استحداث منصب وزير دولة للتسامح في الإمارات عام 2016، وعندما أعلن رئيس دولة الإمارات الشيخ خليفة بن زايد عام 2019 عاماً للتسامح في الإمارات، لم تكن هذه الخطوات من باب الترف السياسي أو على سبيل الدعاية والإعلان وإنما كانت تجسيداً وترجمة لنهج حياة ونمط وتفكير وطريقة في إدارة الحكم والدولة، فقد كانت الإمارات سباقة على مستوى القوانين والممارسات في احترام وحفظ الكرامة الإنسانية وتأمين رفاهية الفرد والمجتمع.
هذا التوجه لم ينحصر في نطاق الإمارات وإنما تجاوز حدودها وجرى نشره وتعميمه عبر سفاراتها في الخارج وعبر ديبلوماسية ناشطة وهادفة، وحيث يشكل سفير دولة الامارات في لبنان الدكتور حمد الشامسي أبرز وجوهها الناجحة والصادقة، فهو لا يتوانى عن ترجمة نهج الدولة الإماراتية وسياستها عبر مبادرات وخطوات إنسانية لها أبلغ الأثر وقوبلت بالترحاب والامتنان، وفي أحدث مبادراته قام بتأمين الكفالات المادية لأكثر من عشرين سجيناً في سجن القبة في طرابلس وهؤلاء المساجين من كل الطوائف والمذاهب وكانوا أنهوا مدة محكوميتهم ولكنهم لم يكن في مقدورهم الخروج بسبب عدم تمكنهم من دفع الكفالة، فجاءت مبادرة السفير الشامسي لتفك ضيقتهم وتدخل البهجة إلى قلوبهم وقلوب عائلاتهم.
في كل الأعمال والنشاطات والخطوات التي بادر إليها السفير الشامسي من ضمن “ديبلوماسية العطاء” لم يفرّق بين الطوائف والمناطق… زار بعلبك والشوف وكسروان وجبيل وعكار وطرابلس… لبّى نداءات المحتاجين إلى مساعدة، عمل على التخفيف من معاناة النازحين، تعاطف مع المظلومين والمقهورين والمستضعفين واضعاً الانسان فوق كل اعتبار وساعياً إلى أعمال ومبادرات تكمل عمله الديبلوماسي وتضفي عليه البعد الإنساني والمجتمعي…
إنها الديبلوماسية الراقية في أحدث مفاهيمها وأكثرها تعبيراً عن ثقافة التسامح والانفتاح والحوار والاعتدال واحترام الآخر، وبهذه الديبلوماسية ومع هذه الثقافة والقيم والتطلعات تكون أقصر الطرق وأكثرها فعالية لمحاربة التطرف والكراهية وكل أشكال
العنف والإرهاب التي تتستر بالدين وتتاجر به وتزوّره، والدين منها براء ولا تمت إليه بصلة.
فإذا كان الجميع متفقين على أن الإرهاب هو آفة العصر ومكمن الخطر الأول ويجب محاربته والقضاء عليه، يبقى الاتفاق على كيفية محاربته والنيل منه والحؤول دون أن يتفاقم ويتفشى في الجسد العربي الواهن، فإذا كانت القوة العسكرية والأمنية سلاحاً فعالاً لا بدّ من استخدامه لردع الإرهابيين، فإن القوة لوحدها لا تكفي لأنها تعالج النتائج والإفرازات ولا تقضي على الأسباب والعوامل الدافعة إلى الإرهاب. وهنا تبرز أهمية تجفيف مصادر التمويل للإرهابيين وأهمية التوعية ونشر ثقافة التسامح والحوار، وأهمية إحداث تغيير في التعليم والتربية والمناهج وأيضاً في التعامل والممارسة والسلوك الاجتماعي…
هذا بالضبط وبالفعل ما تقوم به دولة الإمارات العربية، دولة وحكومة وديبلوماسية، وعبر مبادرات إنسانية وحضارية وخطوات كبيرة ونوعية اهمها دعوة قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس لزيارة الإمارات للتأكيد على سياسة التسامح والسلام، وعلى الحوار بين الأديان والتقريب بين الشعوب ونبذ العنصرية والتقوقع والانغلاق والتعصب وكل أشكال التطرف الديني والسياسي. ومن الطبيعي أن تلقى هذه الزيارة البابوية إلى الإمارات كل ترحيب وحفاوة في لبنان لجهة ما تحمله من معاني الانفتاح على العالم الإسلامي وما تؤسسه لمزيد من الالتقاء والحوار بين الديانات، وهذا أكثر ما تحتاجه منطقتنا اليوم في ظل التطرف والصراعات والحروب والهجرة…