صحيفة الجمهورية
بعد الاستراحة التي فرضتها القمة الاقتصادية العربية على الملف الحكومي، عاد لبنان الى التموضع في هذه المحطة الخلافية، التي أكلت من عمر البلد حتى الآن نحو 8 أشهر. وفي هذا الجو الخلافي الحاد الذي تتحكم به إرادة التعطيل، يبدو انّ عدّاد الزمن مرشّح لتمريك مزيد من الأشهر الضائعة.
الصورة اللبنانية، على رغم تعقيداتها الصارخة، تبدو باهتة أمام الصورة الاقليمية التي تشهد تطورات دراماتيكية متسارعة على أكثر من ساحة توتر، إمتداداً من منبج وما يحضّر لها تركيّاً، مروراً بغليان الجبهة الايرانية الاسرائيلية الذي يُنذر بانفجار كبير.
يعزّز هذا المنحى الخطير، تصاعد التهديدات المتبادلة بين طهران وتل أبيب، وصولاً الى الجبهة السورية والتصعيد الاسرائيلي اللافت للانتباه في كثافته عبر الغارات الجوية والصاروخية التي ارتفعت وتيرتها في الآونة الاخيرة امتداداً حتى يوم أمس باستهداف مواقع قرب العاصمة دمشق، قالت اسرائيل انها تابعة لإيران و«حزب الله» في سوريا، وذلك بالتزامن مع إعادة تحريك الجبهة الجنوبية واستئناف عمليات البناء للجدار الاسمنتي الاسرائيلي في مناطق مُتنازع عليها على الحدود الدولية بين لبنان واسرائيل، وهو الامر الذي دفع الجانب اللبناني الى رفع مستوى جهوزيته تحسّباً لأي طارىء.
وفيما تبرز، وسط هذه الصورة الاقليمية، زيارة قائد القيادة المركزية الاميركية الجنرال جوزف فوتيل الى بيروت أمس، واجتماعه بالرئيس المكلف سعد الحريري، أكدت مصادر ديبلوماسية غربية لـ«الجمهورية» أنها بالغة الخطورة، وتعكس جَو أنّ المنطقة تبدو وكأنها قابعة اليوم على «لغم» او عبوة ناسفة، ويخشى ان يتفاقم الوضع الى حد انفجارها في اي لحظة وبشكل واسع، ذلك انّ التطورات التصعيدية الاخيرة، تحمل الى افتراض انّ المنطقة امام احتمالات خطيرة، خصوصاً انّ الجانبين الايراني والاسرائيلي، اللذين يتقاتلان حالياً على الارض السورية، يقتربان بشكل سريع نحو المواجهة الاكبر بينهما وفي نطاق أوسع.
وبحسب المصادر فإنّ الخطوات التصعيدية الإسرائيلية تجاه الجيش السوري، وكذلك ضد ايران و«حزب الله» في سوريا، قد تكون مرتبطة في جانب منها بأسباب اسرائيلية داخلية مرتبطة بدورها بالانتخابات الاسرائيلية المقررة في نيسان المقبل، تسعى خلالها اسرائيل الى محاولة فرض قواعد جديدة في المنطقة، الّا انها تخرج في الاساس عن سياق التوجه التصعيدي الدائم حيال ايران والذي تباركه واشنطن، التي أكدت عبر وزير خارجيتها مايك بومبيو وكذلك عبر وكيل وزارة الخارجية دايفيد هيل، عزمها على تشديد الضغوط على ايران بما يجعلها تختنق خلال بضعة اشهر، وأيضاً تشديد العقوبات على «حزب الله» في لبنان.
وبحسب المصادر نفسها، فإنّ لبنان يبقى الحلقة الأضعف في هذه التطورات، ما يجعله عرضة لأن تصيبه شظايا أي احتمالات قد تحصل في أي بقعة من حوله، وهو أمر من شأنه أن يدخل هذا البلد في مصاعب إضافية للتي يعانيها، سواء على المستوى الاقتصادي او السياسي، الذي يعكس انّ الخلافات الشديدة ما زالت تربط بين اللبنانيين، علماً انّ دول الاتحاد الاوروبي من دون استثناء أكدت للمسؤولين في لبنان حرصها على استقرار لبنان، وحثّت على التعجيل في تشكيل حكومته، التي لا نرى سبباً جوهرياً لعدم تشكيلها منذ 7 اشهر وحتى اليوم. ذلك انّ تشكيل الحكومة من شأنه ان يمكّن لبنان من ضبط وضعه الداخلي، وحمايته من اي مستجد خارجي.
وفيما تخوّف مسؤول دولي من ان يمتد الاشتعال، فيما لو انزلقت الامور الى الصدام العسكري، من سوريا الى الحدود الجنوبية في لبنان، من دون ان يأتي على ذكر الجبهة الايرانية، وصف مرجع أمني لبناني كبير الاجواء التي تسود المنطقة بـ«الشديدة الخطورة، وتؤشر الى وجود نوايا عدوانية، ولبنان دخل في مرحلة الحيطة لها، إذ في حالات من هذا النوع لا بد من اتخاذ أقصى التدابير الحمائية والاحترازية، وقرارنا في النهاية هو الدفاع عن لبنان ومنع المساس بسيادته». في هذا السياق، نقل عائدون من موسكو أجواء تفيد بأنّ مستوى القلق الروسي من تصاعد الاحتمالات الحربية في المنطقة، منخفض، ذلك انّ كل الاطراف المعنية ليست راغبة في الذهاب الى تصعيد ومواجهة مباشرة، ولكن من دون أن يعني ذلك عدم حصول مواجهات محدودة كتلك التي تحصل بين حين وآخر.
تقريش القمة!
محلياً، إنصرف الطاقم السياسي، وخصوصاً الرئاسي، الى رسم آلية مواكبة تنفيذ مقررات القمة الاقتصادية العربية، مع التأكيد على الحضور المباشر لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون في هذا المجال، وذلك بالتوازي مع التغنّي المُبالغ فيه في ما أعلنته قطر عن الاكتتاب بـ500 مليار دولار في سندات الحكومة اللبنانية، التي أثيرت حولها تساؤلات، لناحية توقيتها، ولماذا الآن بالذات وليس قبل ذلك، وايضاً غايات السياسة القطرية منها، وصولاً الى الجدوى التي سيجنيها لبنان منها. وهو أمر لن يطول الوقت حتى تبرز الاجابات الجدية حوله الى العلن، خاصة وانّ وزارة المالية المعنية بهذا الامر لم تتلق شيئاً حتى الآن، وجل ما هو حاصل حتى الآن هو الاعلان الصادر من وزارة الخارجية القطرية عن هذه الخطوة القطرية.
نصيحة مصرية
على رغم التجميد الداخلي للملف الحكومي الى ما بعد القمة، سجل خرق عربي لهذا الوضع، حيث علمت «الجمهورية» انّ انعقاد القمة الاقتصادية شكّل فرصة لبعض الوفود العربية للقاء مسؤولين لبنانيين على هامش القمة، وسمع الرئيس المكلف سعد الحريري نصائح من بعض هذه الوفود بضرورة حل العقدة الحكومية وتشكيل حكومة في أسرع وقت ممكن، خصوصاً انّ التطورات تتسارع على اكثر من ساحة في المنطقة، ومن الضروري ان يبني لبنان سلطته التنفيذية ليتمكن من ملاقاة اي تطورات محتملة، والّا فإنّ استمرار الموضوع على ما هو عليه من فراغ حكومي في لبنان سيذهب بلبنان الى هاوية أخطر.
وبحسب المعلومات، فإنّ الجانب المصري أسدى الى الجانب اللبناني نصيحة مستعجلة بتشكيل الحكومة، منبّهاً الى عدم جواز استمرار الوضع على ما هو عليه، والذي لا يترتّب عليه سوى مزيد من السلبيات على لبنان، مع التشديد على انّ مصر لطالما وقفت الى جانب لبنان، وانها أدّت دوراً توفيقياً بين مكوناته، على أمل إخراج الحكومة في اقرب وقت ممكن. وهي من موقعها الحريص على لبنان ما زالت تصرّ على الاطراف اللبنانيين أن يدخلوا الى مدار التوافق، اذ انّ الافضل للبنان هو تشكيل حكومة وعدم التوقّف أمام حقيبة وزارية هنا وحقيبة وزارية هناك، او عند ايّ من الامور الثانوية التي من شأنها إبقاء الحكومة في دائرة التعطيل.
مكانك راوح
ما بعد القمة، عاد الملف الحكومي الى طاولة البحث، إنما بشكل خجول، تمثّل في زيارة قام بها وزير الخارجية جبران باسيل الى بيت الوسط، حيث التقى الرئيس المكلف سعد الحريري، بعدما بادر الاخير الى إلغاء زيارته الى دافوس ربطاً بتحرّك جديد قرّر إطلاقه حول الملف الحكومي.
على انّ البحث بين الحريري وباسيل لم يطلق الدخان الابيض في الفضاء الحكومي، بل انه أثار المزيد من التساؤلات حول الافكار الجديدة التي طرحها رئيس «التيار الوطني الحر» على الرئيس المكلّف، وايّ من هذه الافكار التي قال باسيل انّ الحريري وافق على بعض منها. فيما اكدت مصادر موثوقة لـ«الجمهورية» انّ جعبة أفكار باسيل، التي طرحت بالأمس، لا تخرج عن سياق الافكار السابقة التي طرحها ولم يتم الاتفاق على أي منها.
الحريري مع الـ32!
وبحسب المصادر، فإنّ الافكار الجديدة مرتكزة بشكل أساس على مخارج للحكومة لا تمسّ حصة رئيس الجمهورية و«التيار الوطني الحر» التي أكد باسيل انها محددة بـ11 وزيراً، ولا تنازل عنها لا من قبل التيار ولا من قبل رئيس الجمهورية. واشارت الى انّه من بين هذه الطروحات، هناك طرح جديد بالذهاب الى حكومة من 32 وزيراً، ولكن من دون وزير علوي، الذي يرفض الحريري وجوده بشكل قاطع، بحيث يضمّ الى حكومة الثلاثين، وزير للأقليات ووزير سني إضافي فيصبح عدد الوزراء السنّة 7. وبحسب المعلومات انّ رئيس الجمهورية لا يمانع هذا الطرح، وكذلك الحريري الذي لا يمانعه على اعتبار انه يزيد الحصة السنّية بوزير.
رفض شيعي
الّا انّ هذا الطرح مرفوض من قبل الثنائي الشيعي، حيث أحبطا ما سمّتها أوساطهما «محاولة فاشلة لتمرير حكومة 32 مفخخة»، إذ انّ هذا الطرح لا يشكل مدخلاً لحل، بل يشكل مدخلاً الى مشكل، باعتباره يكرّس خللاً ميثاقياً، ومَساً واضحاً بالحصة الشيعية بحيث تصبح الحصة السنية 7 وزراء والحصة الشيعية 6، ما يعني انّ هذا الطرح غير بريء ويحاول تكريس أمور غير واقعية لاعتمادها لاحقاً، وبالتالي يفتح جدالاً لا ينتهي في البلد، لا يزيد فقط الازمة تأزّماً، بل يفتحها على تأزيم أكبر من شأنه أن يدفع أطرافاً معينة الى قلب الطاولة الحكومية واعادة خلط أوراق التأليف من جديد.
لا شيء
وفيما اكدت اوساط الحريري أنه عازم على تفعيل مشاوراته في الايام المقبلة، تردّدت معلومات عن قيام وزير الخارجية جبران باسيل بسفرة خارجية قد تستمر حتى يوم الجمعة المقبل. وقالت مصادر معنية بالملف الحكومي لـ»الجمهورية» انه اذا صحّت هذه المعلومات، فمعنى ذلك ان لا شيء على الخط الحكومي خلال هذا الاسبوع.
وعلى رغم كلام باسيل من بيت الوسط بعد لقائه الحريري، والذي انطوى على بعض من الايجابية، لم يطرق التفاؤل أبواب عين التينة، التي دخلت في «اشتباك على الناعم» مع بيت الوسط عبر موقف انتقادي من أحد نواب كتلة التحرير والتنمية للرئيس الحريري وابتعاده عن السعي لتشكيل الحكومة، أعقبه ردّ من قبل احد نواب كتلة المستقبل.
بري: مخرج وحيد
في هذه الاجواء، ما زال رئيس مجلس النواب نبيه بري ينتظر حصول خرق في الجدار الحكومي، يتمثّل في السير بالمخرج الوحيد الذي طرحه ولا يجد مخرجاً بديلاً عنه، والذي يتمثّل بتوزير واحد من نواب اللقاء التشاوري، او واحد من الشخصيات الثلاثة التي سمّوها للتوزير كممثل حصري للقاء في الحكومة. واللافت في هذا السياق ما عَلّق به مرجع سياسي على الطروحات الأخيرة، حيث قال: كلها طروحات تفتقد الى مفتاح الحل الحكومي، ما يعني انها حتى الآن «طروحات فالصو».
جعجع
على صعيد آخر، علمت «الجمهورية» انّ رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع زار بكركي مساء امس الأول، واجتمع مع البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، وأطلعه على نتائج اتصالاته التي أجراها في الخارج، كما اطّلع من البطريرك على أجواء لقاء الاقطاب والنواب الموارنة في بكركي الاربعاء الماضي. وعلم انّ لجنة المتابعة التي انبثقت عن اللقاء ستجتمع يوم الجمعة المقبل برئاسة الراعي، وذلك لمتابعة المواضيع المهمة والمطروحة على الساحة، وأهمها ملف تأليف الحكومة.
واكدت مصادر كنسية لـ«الجمهورية» انّ بكركي ما تزال عند موقفها في تأليف حكومة اختصاصيين لإنقاذ الوضع وترك الملفات الخلافية الكبرى الى طاولة حوار. وقالت انه يتوجّب على القيّمين على التأليف أخذ القرارات الجريئة والمفيدة وطنياً، وإلّا فإنّ الاوضاع ستبقى كما هي وستزداد سوءاً.