إيلي حنا – الأخبار
قبل شهور قليلة من نهاية ولاية الرئيس السابق باراك أوباما، بدأ الأمير محمد بن سلمان تحرّكاته في الداخل الأميركي تحضيراً لمرحلة ما بعد هذه الإدارة التي ــ وفق الوثائق السعودية ــ كانت لديها تحفظات على بعض سياسات المملكة في المنطقة، ولم تكن متحمسة للدخول في شراكات مع الرياض لا سيما في ما يخص محاربة «داعش».
في حزيران عام 2016، وصل الأمير والوفد المرافق إلى الولايات المتحدة، في وقت كانت تمر العلاقات السعودية – الأميركية بمرحلة من الفتور في أعقاب الاتفاق النووي مع إيران.
حينها، لم تكن صورة الأمير الشاب قد تلطّخت بالدماء بالنسبة للرأي العام الأميركي ووسائل إعلامه التي لم ترَ في العدوان على اليمن مادة تخدم الأجندات السياسية التي كانت تُروّج لها. بل على العكس، فجّرت الزيارة الشهيرة مقالات لا تُعد ولا تحصى يكيل فيها أبرز الصحافيين الغربيين المديح لـ«الإصلاحات» التي يقوم بها ولي ولي العهد وخططه الاقتصادية والمستقبل الواعد الذي ينتظر المملكة مع بدء «رؤية 2030».
لم يأتِ كل ذلك المديح والدعم الإعلامي والسياسي من عدم، وإنما بالتنسيق مع المملكة التي تغلغلت في عمق عالم الشركات الاستشارية ومراكز الأبحاث والعلاقات العامة في الولايات المتحدة، وضخّت ملايين الدولارات في سبيل تكوين صورة إيجابية للمملكة وأميرها الشاب، وكسب المزيد من التأثير داخل أروقة صناعة القرار الأميركي.
وسط تصفيق الإعلام لابن سلمان، ظهرت بعض المقالات المشككة بواقعية الانقلاب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي يقوده الأمير الشاب، ومن ضمنها مقال لمجلة «فوربس» الاقتصادية اعتبرت أن زيارة الرجل إلى الولايات المتحدة، وتعاقده مع شركة «أوبر»، قد لا تقّله بسرعة إلى الوجهة التي يتمنى الوصول إليها. اليوم، بعد عامين ونصف العام على الزيارة، يبدو ولي العهد أبعد ما يكون عن وجهة الوصول.
بالعودة إلى ربيع 2016، كشفت برقية بقلم المستشار بالأمانة العامة لمجلس الوزراء السعودي ياسر بن عثمان الرميان، موقعة بتاريخ 12/9/1437 هـ. (18/6/2016 ميلادي) موجهة إلى «معالي رئيس الديوان الملكي» ومصنفة «سري وعاجل جدّاً»، عن سلسلة الزيارات واللقاءات التي قام بها محمد بن سلمان والوفد المرافق له من 8 رمضان إلى 18 رمضان (حزيران).
التقى سلمان والوفد المرافق بشخصيات مؤثرة وذات ثقل سياسي واقتصادي وإعلامي كبير في الولايات المتحدة والعالم. وشملت اللقاءات مجموعة واسعة من الشركات الاستشارية ومراكز الأبحاث وعمالقة التكنولوجيا، وأبرز المؤسسات الأميركية وكبار المستثمرين. وتضم الوثيقة تفاصيل جدول لقاءات ابن سلمان، لا سيما زيارته إلى «سيليكون فالي» أو «وادي السيليكون»، المنطقة المعروفة بأنها العاصمة التقنية للعالم بسبب اتخاذ العديد من الشركات التي تعمل في مجال التقنيات الحديثة والمتقدمة من هذه المنطقة الجغرافية مركزاً لمقراتها. وكذلك صفقة «أوبر» الشهيرة وغيرها. وبعيداً من عالم التكنولوجيا والاقتصاد، تشير الوثيقة إلى اجتماع ابن سلمان والوفد المرافق بوزير التجارة الأميركي (10 رمضان) ورئيس وكالة الاستخبارات الأميركية (11 رمضان)، ووفد من الغرفة التجارية الأميركية (11 رمضان). الوثيقة المؤلفة من 15 صفحة تُظهر عرضاً شاملاً لـ«اللقاءات والزيارات في اليومين لمعالي المستشار» ضمن مرافقته «سمو ولي ولي العهد» في اجتماعات في واشنطن وسان فرانسيسكو ونيويورك. وتكشف دور شركات العلاقات العامة ومراكز الأبحاث في صنع القرار السعودي. وعلى نحو أوضح، أهمية هذه الشركات في «العقل السعودي» من ناحية تأثيرها في الداخل الأميركي واستمالتها مالياً للترويج لحكام الرياض.
هذه اللقاءات «التحضيرية» تُظهر ملامح الانقلاب الذي (كان) يعده الأمير الصاعد في الداخل السعودي، بتشكيله فريقاً خاصاً يقود من خلاله دفّة العلاقات الخارجية، ويعمل من خلاله على نسق جديد من الشراكة مع الولايات المتحدة، يضع في جيبه مفاتيحها. وفي هذا السياق يتبيّن دور «صندوق الاستثمارات العامة» ودور ياسر الرميان الأساسي فيه. فنظرياً ما علاقة صندوق الاستثمارات بقضايا سياسيّة؟ إلا إذا كان ابن سلمان يشق طريقاً خاصاً للعمل الثنائي مع الولايات المتحدة وحصره فيه وبفريق «غير معروف»، إذ بدأ الأمير الشاب مبكراً حملاته لإقصاء الخصوم وضرب مراكز القوة والقرار داخل النظام. مع دخوله القصر بعد اعتلاء والده العرش في كانون الثاني 2015، قبض على خِتم والده رئيساً للديوان ووزيراً للدفاع، ورئيساً لـ«مجلس الشؤون السياسية والأمنية». من مناصبه الحساسة الجديدة، بدأ الرجل رحلة ضرب المنافسين وتذليل العقبات أمام الاستحواذ على العرش. أقيل ولي العهد مقرن بن عبد العزيز، أولاً، في نيسان 2015، وعيّن أحد أحفاد عبد العزيز، محمد بن نايف، في منصب ولاية العهد للمرة الأولى، في ثاني الإشارات على إقصاء أنجال الملك المؤسس على رغم وجودهم كورثة شرعيين وفق نظام الحكم، بعد أن أتت الإشارة الأولى مع تولي ابن نايف منصب ولي ولي العهد، فور وصول سلمان إلى الحكم. وبعد أن صعد ابن سلمان في جولة الأوامر الملكية تلك إلى منصب ولي ولي العهد، تركّز عمله بداية على تقليص نفوذ الأجنحة وبقية الأمراء من أنجال عبد العزيز وأحفاده، وخصوصاً من جناح سلف الملك سلمان، الملك عبد الله. أقيل وزير الخارجية سعود الفيصل، وألغي 12 مجلساً وهيئة، وحُصر النفوذ بيد البيت السلماني بشكل رئيسي. سريعاً أشعلت الحرب ضد اليمن، في آذار 2015، وبات ابن سلمان متحكماً بالعسكر والأمن، ومحاصراً أدوار بقية الأمراء على رأسهم رئيس جهاز «الحرس الوطني» متعب بن عبد الله. في موازاة ذلك، أعلن ابن سلمان في نيسان 2016 نفسه قائداً للبلاد عبر التخطيط لمستقبلها في ما عرف بـ«رؤية 2030»، متجاوزاً ولي العهد حينها. هذه «الرؤية» أراد من يلمّعها ويشكر بـ«حمدها»… فكانت هذه اللقاءات.
واحد من اللقاءات التي تمت في العاصمة الأميركية واشنطن، كان في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» (CSIS)، بحضور نائب رئيس المركز فرانك فيراسترو، ونائب الرئيس ومدير برنامج الشرق الأوسط جون آلترمان، لبحث أوجه التعاون المحتملة.
اللافت في ما ذكر عن الاجتماع في الوثيقة، أن فريق المركز أشار إلى أنه تسلّم طلباً سابقاً للتعاون من المستشار السابق في الديوان الملكي سعود القحطاني، الذي برز اسمه أخيراً كواحد من المتهمين في قتل الصحافي جمال خاشقجي.
القحطاني الذي صدرت بحقّه أمس مذكرة توقيف من المدعي العام في العاصمة التركية على خلفية قضية خاشقجي، وكما تظهره الوثائق، كان أحد الأدوات البارزة التي اعتمد عليها ابن سلمان في الحملة التي عمل عليها لتلميع صورته في العالم عبر مهامه كمشرف عام على «مركز الدراسات والشؤون الإعلامية في الديوان الملكي» ورئيس مجلس إدارة «الاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة»، وذلك قبل أن يُزّج اسمه كبش فداء لتحييد الشبهات عن وليّ العهد.