وليد شرارة – الأخبار
لا شك في أن «الأعمال المباشرة» التي شهدتها شوارع عدد من مدن وبلدات فرنسا، أي التصدي للأجهزة الأمنية للسلطة الفرنسية، واستهداف رموز الرأسمالية والثراء الفاحش، من آلاف المتظاهرين المشاركين في إحدى أكبر الحركات الاحتجاجية التي عرفتها البلاد في تاريخها المعاصر، قد أعطت شحنة قوية من التفاؤل لجان مارك رويان، قائد «منظمة العمل المباشر». فالرجل الذي قضى ما يقارب خمساً وعشرين سنة في السجون الفرنسية، بتهمة المسؤولية عن عمليات اغتيال لشخصيات عسكرية واقتصادية فرنسية، واستهداف مصالح أميركية وإسرائيلية، بقي متمسكاً بالثوابت التي دفعته إلى اعتماد العنف الثوري، دفاعاً عن المستغلين والمقهورين والمظلومين عبر العالم، ضد الرأسماليات الإمبريالية والصهيونية. وهو يعتقد اليوم أن استعار الصراع الطبقي، وسياسة القمع المعتمدة ضد الحركات الاجتماعية، قد تفسحان في المجال لإعادة بناء حركة ثورية جذرية.
يقول جان مارك رويان عن نشأة حركة «السترات الصفراء»: «أكثر ما يدهشني هو سرعة انتشار السترات الصفراء من دون أن يكون قد سبقتها احتجاجات اجتماعية. أساس الحركة حالة غضب عارمة وشعبية ومتناقضة، ومكوناتها متناقضة أيضاً، فنجد أفكاراً وأطروحات يسارية، وحتى يمينية. فالجماهير تنضم إلى حركة الاحتجاج حاملة معها أفكارها السياسية ساعة انطلاقتها، وغالباً ما تكون متناقضة». ويضيف: «المهم أن الحركة تتسع في لحظة تشهد فيها فرنسا أزمة قيادة وحكومة، وأزمة أيديولوجية للحكم ولمؤسساته وأجهزته. غضب الجموع موجه ضد الحكم، ولكنه يستهدف أيضاً الصحافيين. أمام هذا الانفجار الاجتماعي العفوي ليس للسلطة الفرنسية من أجوبة، وصمت رئيس الدولة يعكس أزمة الحكم».
للاحتجاجات أسباب سياسية مباشرة وأخرى بنيوية، مرتبطة بالتحولات العميقة الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها باريس في العقود الأخيرة. «قد يكون السبب الرئيسي للاحتجاجات، هي سياسات الازدراء الكامل حيال الجماهير الشعبية المعتمدة منذ أكثر من عشرين عاماً. لم تتعاظم الحركة بسبب قرار رفع أسعار الوقود، بل بسبب غطرسة الحكم وعجزه عن الحوار. تجلت هذه الغطرسة في تموز/ يوليو في الطريقة التي تم فيها اتخاذ قرار تخفيض السرعة على الطرق إلى 80 كلم/ساعة، والتي استفزت قطاعات كبيرة من الناس، فبدأت أولى عمليات التخريب، بما فيها تكسير الرادارات المخصصة لمراقبة حركة السير، وهي في الحقيقة عمليات مقاومة». ويتابع: «قرار رفع سعر الديزل، كان القشة التي قصمت ظهر البعير، وأدى إلى انفجار الاحتقان الاجتماعي. طبعاً، الأخير هو نتاج للتحولات البنيوية التي شهدتها فرنسا في العقود الماضية. تكاليف العيش المرتفعة في المدن الكبرى دفعت الفقراء ومحدودي الدخل إلى الضواحي البعيدة والريف. شهدنا في الفترة إياها اختفاءً تدريجياً لوسائل النقل العام في هذه المناطق، وأصبحت وسيلة النقل الوحيدة هي السيارة، لكن الناس أضحوا لا يستطيعون دفع الثمن المرتفع للوقود» ويضاف إلى ذلك، وفق رويان، الضرائب «التي تثقل كاهلهم، والمتزامنة مع إلغاء الضريبة على الثروات الكبرى. تلغى هذه الضريبة في الفترة ذاتها التي يسهب فيها الخطاب الرسمي الموجه للجماهير، بالحديث عن الأزمة والإصلاح الهيكلي وضرورة شد الأحزمة».
لكن، من هي القوى السياسية القادرة على التأثير في الحركة الاحتجاجية ومآلاتها؟ «قوتان منظمتان رئيسيتان تشاركان في الاحتجاجات، فرنسا المتمردة، اليسارية، واليمين المتطرف، ولكنهما لا تعبران عن جميع الكتل والقوى المشاركة فيها. هناك قوة ثالثة مكونة من مجموعات ترغب في تشكيل إطار سياسي يمثلها، كما حدث في إيطاليا مثلاً مع حركة النجوم الخمس. التناقضات تتمظهر برفض المفهوم السائد للسياسة، وكذلك رفض المؤسسات. حاولت السلطات تجاهل الحركة واستنزافها لإضعافها، لكن النتيجة كانت تجذر جزءاً منها. غالبية الأشخاص الذين شاركوا في المواجهات مع الأجهزة الأمنية، وفي عمليات تحطيم وتكسير المتاجر والسيارات، لم يسبق لهم أن فعلوا ذلك. نحن أمام شكل من الانتفاضة الشعبية».
ويواصل: «هنا في المدينة، التي أعيش فيها، نزل طلاب المدارس الثانوية إلى الشوارع، واصطدموا بأجهزة الشرطة. كتل وقوى متعددة تنضم إلى الاحتجاجات مع مطالبها، وتساهم في تجذرها في مواجهة النظام وأجهزته القمعية، وبمهاجمة ماكرون كرمز. لقد انضمت الأحياء الشعبية أيضاً، حيث تقطن غالبية من أبناء المهاجرين، عانت طويلاً من عنف أجهزة الشرطة، إلى الحركة، وهذا تطور شديد الأهمية. إنها حركة شديدة التعقيد، ولا أرى كيف ستنجح السلطات في احتوائها وتهدئتها إن كانت تستطيع ذلك أصلاً».
وعن الاستثمار السياسي المحتمل للحركة، وإمكانية تحولها إلى رافعة لتشكيل قطب جذري، يقول رويان: «هناك نقاش محتدم في أوساط اليسار الجذري. رد الفعل الأولي في بعض أوساطه كان اتهام الحركة بالشعبوية، وحتى بالفاشية. اختلفت المواقف اليوم كثيراً. نقابات ومجموعات يسارية جذرية تشارك فيها، وقد شكل السبت الماضي منعطفاً نحو المزيد من المشاركة. قطاعات متسعة باضطراد من الجماهير الشعبية، ومن قواها السياسية، تعارض بحزم أكبر النظام وسياساته وأجهزته. نحن أمام أزمة سيطرة بالمعنى الفعلي للكلمة بالنسبة إلى النظام. السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ووسائل الإعلام جميعها محط إدانة من الجموع الغاضبة. شرعية هذه المؤسسات باتت عرضة للتشكيك. أزمة السيطرة تعني حركة احتجاج عارمة وعجز السلطة عن إدارة الأزمة. لقد أظهرت هذه السلطة عجزها عن إدارة الأزمة، وعن تقديم أي حلول. حلها الوحيد إلى الآن هو القمع، وهو أمر لم يضعف الحركة».
ويضيف: «أزمة السيطرة مستفحلة. سيحاول اليمين المتطرف استغلال الحركة، لكن بعض مواقفه تتعارض مع مطالبها الرئيسية كرفع الحد الأدنى للأجور. ليس لدى اليمين المتطرف حلول يقدمها إلى هذه الجموع. أعتقد أن أطرافاً داخل الحركة ستعمل على تحويلها إلى قوة سياسية قادرة حتى على المشاركة في الانتخابات بعيداً من محاولات الاستغلال من الجهات السياسية الموجودة حالياً، لكن الأمر ليس سهلاً. الحركة معقدة لدرجة كفيلة بإفشال محاولات استغلالها أو احتوائها. إن لم تتراجع الحكومة، فإن الحركة بتعقيداتها وتناقضاتها الكبرى ستتجه نحو المزيد من الجذرية في رفضها ومعارضتها النيوليبرالية وجميع السياسات التي أدت إلى إفراغ الديموقراطية من مضامينها في الدول الأوروبية. هذه الحركة تسمح بإعطاء معنى جديد للتاريخ، وهو مقاومة النيوليبرالية والرأسمالية عامة».