محمد وهبة – الأخبار
هل بلغت الأزمة المالية حدّ حصول كباش بين وزارة المال ومصرف لبنان؟ السؤال مثار على خلفية امتناع مصرف لبنان عن الاكتتاب بسندات الخزينة ومطالبته برفع الفائدة كشرط أساسي للاكتتاب. هذا هو أحدث شكل تأخذه الأزمة، وأخطرها أيضاً، فالمشكلة ما عادت تتعلق بالكلفة المدفوعة لحماية الاستقرار المالي، بل بضعف هذه الحماية على رغم كل الكلفة، وتآكل قدرة النظام على استقطاب التمويل
ما حذّر منه البنك الدولي بدأ يحصل فعلياً. الأزمة تتحوّل إلى «أعطال نظامية» في ظل محدودية «الأدوات المتاحة لتحقيق الاستقرار». كان التحدّي في كيفية استقطاب التمويل من الخارج من خلال الأدوات التقليدية (رفع أسعار الفائدة) أم غير التقليدية (الهندسات)، ثم أصبح اليوم، في ظل شحّ التمويل، أزمة في الاستخدام وتوزيع الكلفة بين وزارة المال ومصرف لبنان. ما يحصل هو تنافر بين قيادتي السياسات المالية حول ترتيب الأولويات النقدية والمالية وأثرها الاقتصادي. فهل يأتي الدفاع عن سعر الصرف أولاً، أم تمويل الدين العام، أم التضخّم، أم أسعار الفوائد… أيها تجب معالجته بما لا ينعكس سلباً على بقية مؤشرات الوضع الاقتصادي؟
هذا الأمر ليس تفصيلاً صغيراً في بنية النظام، بل يعبّر عن حجم «الأعطال» التي أصابته، وعن قدرة مصرف لبنان على توجيه العمليات بما يتلاءم مع سياساته بعيداً من أي اعتبارات أخرى. مصرف لبنان في هذه الحالة، لطالما كان المدافع الشرس عن بنية هذا النظام الذي يرتقي فيه سعر صرف الليرة فوق كل الأولويات، سواء أيام «البحبوحة» التي تتيح له التصرف بسخاء مع الطبقة الحاكمة، أو في أيام الشحّ التي تتيح له الأخذ من الطبقات المتوسطة والفقيرة.
يعبّر مصرف لبنان عن أولوياته بطريقة واضحة. فهو يرفض الاكتتاب بسندات الخزينة الجديدة التي تصدرها وزارة المال إلا بعد رفع فوائدها. يأتي قراره على رغم علمه بالأعباء الكبيرة التي يرتّبها قراره على كلفة خدمة الدين العام وعلى العجز في الخزينة. الأهم بالنسبة له أن الخيارات ليست كثيرة، بل هناك خيار واحد: شراء المزيد من الوقت والرهان على تغيير ما.
في هذا الإطار، جاء شرط مصرف لبنان رفع معدلات الفائدة إلى مستويات الفائدة السوقية. هو أصلاً قام بالهندسات المالية المتواصلة منذ عام 2016 إلى اليوم، ثم لجأ إلى رفع أسعار الفائدة السوقية بالتعاون مع المصارف، من أجل مساعدته على تحقيق هدفين: مواصلة استقطاب الدولارات من الخارج، والإمساك بالسيولة.
في البداية رفضت الوزارة الاستجابة لهذا المطلب، إلا أنها أبدت مرونة لدراسة هذه المسألة. حسابات الوزارة تنطلق من كون هذا التغيير، في فائدة سندات الخزينة، سيؤدي إلى ارتفاع كلفة خدمة الدين العام وبالتالي المزيد من العجز المالي. وفي الحسابات أيضاً، يتبيّن أنه في النصف الأول من هذه السنة ارتفع العجز إلى 4577 مليار ليرة بسبب زيادة النفقات وتراجع الإيرادات، فيما تشير التوقعات إلى أنه في نهاية عام 2018 سيكون العجز بلغ أكثر من 8000 مليار ليرة، وهو رقم يفوق التقديرات التي وردت أثناء مناقشة مشروع موازنة عام 2018. هذا يطيح بكل التزامات لبنان أمام الدول المانحة في مؤتمر «سيدر»، حيث اتُفق على أن يقوم لبنان بخفض عجزه بمعدل 1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً، وذلك لمدة خمس سنوات.
اللافت أن وزارة المال لديها حاجات للإنفاق تزيد على ملياري دولار حتى نهاية السنة الجارية، وهي تملك في حساباتها لدى مصرف لبنان أقل من 3000 مليار ليرة، ولا يمكنها الحصول على المزيد إلا إذا رفعت كلفة خدمة الدين العام، أي رفعت فوائد سندات الخزينة الجديدة.
في المقابل، تبدو حسابات مصرف لبنان مختلفة. فمن جهة هو يحتاج بشدّة أن يسيطر على معدلات التضخّم التي بلغت 7 في المئة، وهناك احتمال بمزيد من الارتفاع أيضاً، إذا لم يتمكن مصرف لبنان من الإمساك بها. ومن جهة ثانية، فإنه يحتاج إلى مواصلة الدفاع عن سعر صرف الليرة. مصرف لبنان لا يمكنه تحقيق هذين الهدفين من دون إدارة للسيولة تتيح له السيطرة والتحكّم بالكتل النقدية بالليرة، أي أنه سيتوقف عن ضخّ السيولة بها، بما فيها عمليات خلق النقد بالليرة، التي تنتج من اكتتاباته بالديون الجديدة التي تصدرها وزارة المال على شكل سندات خزينة بالليرة.
بحسب مصادر مطلعة، هذه هي «الخطوط الاستراتيجية التي تفرض على مصرف لبنان الامتناع عن الاكتتاب بالسندات الجديدة، إذ لا يمكنه التوسع في ضخّ السيولة وخلق النقد نظراً لما سيرتبه هذا الأمر من زيادة في الضغوط التضخمية».
إذاً، السيطرة على السيولة ستفسح المجال أمام مصرف لبنان أن يستكمل ما فعله خلال السنتين الماضيتين، أي الانتقال من سياسة تثبيت سعر الصرف بواسطة استقطاب النقد ودعم القروض، إلى تحقيق النتائج نفسها بواسطة الإمساك بالتضخّم ودعم الودائع من خلال رفع أسعار الفائدة. هذا التغيّر في أدوات السياسة النقدية لم تفرضه ظروف محلية فقط، بل كانت هناك مجموعة أسباب وراءه، أبرزها ارتفاع أسعار الفوائد العالمية على الدولار (هناك هامش بأكثر من نقطتين بين الفائدة على الدولار في الخارج والفائدة على الدولار المودع في لبنان)، تقلّص التدفقات النقدية من الخارج باتجاه لبنان، إضافة إلى المنافسة على العملات الأجنبية من دول المنطقة… وفي هذا الوقت كانت هناك ظروف محلية فرضت عليه هذا التغيير أيضاً، من أبرزها تنفيذ هندسات مالية في عام 2016، التي خلقت كميات كبيرة من النقد بالليرة واضطرار مصرف لبنان إلى امتصاصه بكلفة عالية بهدف السيطرة على التضخّم، ثم زيادة الإنفاق الانتخابي، وإقرار سلسلة الرتب والرواتب وارتفاع أسعار المحروقات.
بهذا التغيير يحاول مصرف لبنان تكريس قاعدة سوقية تتيح له التحكّم وحده بسعر الفائدة، بعيداً من أي رأي لوزارة المال، وبالتالي عليها أن تنصاع له عندما يطالب بزيادة أسعار الفائدة على سندات الخزينة الجديدة. هذا الأمر يؤمن له إيرادات جديدة يقلل فيها الخسائر التي تكبدّها نتيجة تنفيذ الهندسات المالية، وهذا المستوى من الفوائد ينسجم مع مطالب المصارف، أي أنه سيوفّر لها أرباحاً إضافية سهلة، ما يؤدي بطبيعة الحال إلى الإمساك بالسيولة والسيطرة نوعاً ما على معدلات التضخّم. هذا ما يدفع السياسيين نحو التماهي مع مشروع الحاكم رياض سلامة القائم على زيادة الضريبة على البنزين. سحب الأموال بهذه الضريبة هو عملية إدارة للسيولة.