إسرائيليون و«سي آي إيه» يُعدّون تقارير الادعاء
ابراهيم الأمين – الاخبار
تنطلق اليوم في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان جلسات المرافعات الختامية. ووصل الرئيس سعد الحريري إلى لاهاي لحضور الجلسة الأولى ضمن برنامج يمتد لنحو أسبوعين، وتشمل مرافعات الادعاء والمتضررين وفريق الدفاع، على أن يتفرغ القضاة بعدها لمراجعة الملفات قبل إصدار الحكم المتوقع العام المقبل.
يختلف مشهد المحكمة الدولية هذه المرة عن كل ما سبق. لا يتصل الأمر فقط، بكون المحكمة لا تحمل جديداً، باعتبار أنها أُقيمت أصلاً لإدارة فتنة سياسية في لبنان، بل لكونها باتت منتهية الصلاحية بالمعنى السياسي، مقابل ضعف هائل في صدقيتها، وتراجع أكبر في اهتمام الناس بعملها ونتائجها.
ومع ذلك، فإن القوى السياسية الكبرى التي وقفت خلف قرار إنشاء المحكمة، ومعها قوى وشخصيات لبنانية وعربية، تواصل الرهان عليها كعنصر ضغط على خصوم الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل والسعودية في لبنان والمنطقة. وقد برزت في الآونة الأخيرة مؤشرات على رغبة إسرائيلية – أميركية – سعودية بإعادة التركيز على اتهام حزب الله بالمسؤولية عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وذلك توصلاً إلى هدف تصنيف الحزب منظمةً إجرامية ــــ إرهابية في أكثر من مؤسسة دولية وإقليمية، وحتى الضغط على القوى اللبنانية لعدم التعامل معه على مستوى مؤسسات الدولة.
ورغم أن المعطيات المجمّعة لا تقود إلى توافر أدلة عند فريق الادعاء، غير ملف الاتصالات، فإن المدعي العام يسعى في مرافعته الاتهامية إلى تقديم شرح يهدف من خلاله إلى إعادة الربط بين المجموعة المتهمة بالاغتيال وقيادات سياسية ومدنية من حزب الله ومع مسؤولين سوريين أيضاً. ويتضح من سياق الأوراق المتداولة أن الادعاء يريد توسيع دائرة الاتهام، ليصل إلى المستوى السياسي في حزب الله، بما يتيح له اتهام الحزب مباشرةً من زاوية «دوافع الجهات المحرضة».
قبل أي كلام، لا بد من عرض بعض ما يستند إليه المدعي العام الدولي نورمان فاريل، لطلب إدانة أربعة شباب لبنانيين تعرضوا لأشرس هجوم قضائي دولي منذ عام 2011 من خلال إصدار مذكرات توقيف دولية بحقهم، ومن خلال الشروع بمحاكمتهم غيابياً في لاهاي.
الفضيحة الأكبر التي تواجه عمل فريق الادعاء اليوم، ليست حصراً في عدم تقديمه أي دليل ثابت وقوي بعد 13 سنة ونصف سنة من التحقيقات، سوى ملف داتا الاتصالات، بل أيضاً في كون مساعيه إلى إدانة حزب الله، دفعته إلى التصرف بوقاحة تعكس خلفيته، من خلال التوجه مباشرةً إلى أعداء الحزب الأساسيين للحصول على ما يفيده في وجهته السياسية.
واطلعت «الأخبار» على وثائق تخصّ فريق المدعي العام، توضح أنه جرت الاستعانة بخبراء من إسرائيل ومن أجهزة رسمية أميركية في معرض إعداد الاتهام. وتكشف هذه الوثائق أن مزاعم الادعاء عن حزب الله جاء بها مستشارون أميركيون وإسرائيليون. وقد تمكنت «الأخبار» من الحصول على تقارير تخصّ عدداً من هؤلاء، عمد مكتب المدعي العام فاريل إلى التعاقد معهم وسدّد كلفة خدماتهم التي تضمنت وضعهم تقارير بصفتهم «خبراء» بشأن كل ما يخصّ هيكلية حزب الله وتاريخه والمنتمين إليه. وبينت المعطيات هويات هؤلاء الخبراء السريين الثلاثة، وهم: ريتا كاتس، ماثيو ليفيت، وروبيرت باير.
وفي محصلة بحث جانبي، تبين أن كاتس تحمل الجنسية الإسرائيلية، وخدمت في الجيش الإسرائيلي، وهي تدعي أنها خبيرة في شؤون الإرهاب. وكانت قد اتهمت في السابق بفبركة أفلام تعرض إعدامات مزعومة لتنظيم «داعش». وهي انتقلت إلى الولايات المتحدة بسبب توظيف زوجها الطبيب في أحد المراكز الطبية الأميركية.
أما ليفيت، فهو مدير سابق لبرنامج مكافحة تمويل حزب الله في وزارة الخزانة الأميركية ومصدر أساسي للمعلومات والتحليلات في أجهزة الاستخبارات الأميركية التي تطارد الحزب في العالم.
أما «الخبير» الثالث، أي روبيرت باير، فهو معروف في وسائل الإعلام، وهو «ضابط متقاعد» من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (cia) وسبق أن نشر كتاباً عن عمله في الوكالة، بدأه بالقول إن مهمته في بيروت كانت للبحث عن القائد الجهادي الشهيد عماد مغنية واغتياله.
لبنان يموّل خبراء العدو؟
وبمعزل عن أن القوى السياسية ستتجاهل حقيقة أن العدو الأميركي – الإسرائيلي يعمل من دون توقف لإثارة الفتنة في لبنان، فمن الضروري الإشارة إلى أن الحكومة اللبنانية تدفع من المال العام ما نسبته 49 في المئة من ميزانية المحكمة، وبالتالي إن نصف ما قبضه «الثلاثي» ليفيت ــــ كاتس ــــ باير جاء من مال اللبنانيين.
ألا يتطلب وجود هؤلاء في عمل فريق الادعاء، سؤال القاضية اللبنانية جويس تابت التي تشغل منصب نائب المدعي العام الدولي عن سبب قبولها التعاقد مع أشخاص يعملون لمصلحة العدو الإسرائيلي؟
المشكلة الإضافية في سلوك الحكومة اللبنانية، أنها لم تبادر يوماً إلى طلب تدقيق في حسابات المحكمة ومصاريفها، رغم أن لبنان صرف حتى الآن نحو 600 مليون دولار، أي ما يوازي عشرة أضعاف الموازنة السنوية لوزارة العدل التي تعاني في جسمها البشري وبنيتها ومبانيها من مصائب كبيرة.
وأكثر من ذلك، فإن هذه الموازنات المرشحة للزيادة، لم تقدم جديداً، لا على الصعيد الفني، ولا على صعيد المعطيات التي يستند إليها فريق الادعاء اليوم في اتهامه، وهي داتا الاتصالات، التي يعرف الجميع أن عدداً من ضباط الجيش اللبناني وقوى الامن الداخلي توصلوا إلى تحديدها خلال أشهر قليلة من التحقيقات التي تلت عملية الاغتيال (تملك «الأخبار» وثائق رسمية تفصّل كل المعلومات الواردة في مذكرة المدعي العام، وقد أعدت في عام 2006).
عملياً، ما سيطرحه فريق الادعاء بحسب معطيات علنية وأخرى حصلت عليها «الأخبار»، ينحصر في الآتي:
أولاً: إن نتائج تحليل حركة الهواتف الخلوية تشير إلى أن مجموعة تتألف من أشخاص ينتمون إلى حزب الله نفذت هجوم 14 شباط 2005. ويستعد المدعي العام الدولي، بعد صدور الحكم عام 2019، للبناء عليه من أجل تحديد علاقة المرؤوس بالرئيس وفتح بازار التهديد بضم السيد حسن نصر الله إلى قائمة المتهمين.
ثانياً: إن حزب الله تنظيم إرهابي قام بهجوم 14 شباط 2005 بالتنسيق مع مسؤولين سوريين. وتؤكد خلاصات تحليل الاتصالات ذلك وتقرّ به تقارير الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية.
ثالثاً: إن ادعاءات الشهود السياسيين (جميعهم من الفريق السياسي التابع للحريري) تتميز بالقيمة الثبوتية المناسبة لحسم دوافع الجريمة.
الثمن الكارثي لجريمة المحكمة
لكن فرق التحقيق الدولي التي عملت قبل قيام المحكمة، ثم فرق الادعاء التي عملت بعد قيامها، ارتكبت جرائم كبيرة بحق اللبنانيين، ويتحمل المسؤولون اللبنانيون مسؤولية كبيرة في هذا المجال، ولا سيما أن المدعي العام وفريقه الذي يضم عشرات المحامين والمحققين والخبراء والمحللين، ارتكب العديد من الأخطاء المهنية الجسيمة التي نالت من حقوق اللبنانيين الأساسية، من خرق مبدأ خصوصية اللبنانيين من خلال الاستحصال على معلومات تشمل جميع الطلاب المسجلين في الجامعة اللبنانية، مثلاً، وجميع السجلات في مصلحة تسجيل الآليات ودوائر النفوس والدوائر العقارية، والملفات الطبية، وملفات الاتصالات الهاتفية ونصوص الرسائل النصية بينهم على مدار سنوات طويلة. إضافة إلى أن كل هذه المعلومات باتت بيد جهات أجنبية لا تخضع لأي رقابة من الدولة اللبنانية المؤتمنة على الحفاظ على خصوصيات المواطنين، ثم اغتصاب أبسط القوانين والأصول المهنية من خلال احتجاز حرية أربعة من كبار ضباط لبنان لعدة سنوات من دون وجه حق، والقيام بأعمال بلطجة، كاقتحام مسلح لعيادة نسائية في الضاحية قام بها محققون دوليون بحجة البحث عن معلومات، وذلك من دون وجود مندوبين عن وزارة الصحة أو نقابة الأطباء.
أكثر من ذلك، فإن هذه الفرق تجاوزت عن عمد القانون الدولي الذي يحدد حصانات البعثات الديبلوماسية ويمنع التنصت على الاتصالات التي يجريها الديبلوماسيون، وخرق القوانين اللبنانية التي تجرِّم أي اعتراض للمخابرات الهاتفية إلا في إطار القانون 140/99. فالمحققون الدوليون طلبوا الاطلاع على كامل حركة الاتصالات بغضّ النظر عما إذا كان من بين المتصلين وزراء وسفراء ونواب.
إذا كان في لبنان «حفنة» سياسيين وعملاء يتعاونون مع قوى إقليمية ودولية لمعاقبة المقاومة في لبنان، فإن الأجدى بمن يحرص على مستقبل هذه البلاد ووحدة هذا الشعب، التصرف سريعاً، من أجل وقف هذه الفضيحة وإقفال أكبر مصدر للتزوير والسرقة في تاريخ لبنان.