انطلاقة متعثّرة لـ«جنيف 3»: الإقرار بالهزيمة مؤجّل
صحيفة الاخبار
صنعاء | لا يمكن النظر إلى الجولة الرابعة من جولات مشاورات السلام اليمنية إلا بوصفها مَسرْباً للسعودية والإمارات، تتفاديان من خلاله الإقرار بهزيمتهما في هذا البلد. وعلى رغم اجتماع عوامل ضغط متعددة من شأنها فتح الباب على تحقيق اختراقات في «الملفات الإنسانية»، إلا أن إمكان وضع حدّ نهائي لهذه الحرب المستطيلة لا تبدو متوافرة، في ظل إصرار الرياض وأبو ظبي على انتزاع إنجاز استراتيجي، والدعم الأميركي المتواصل لهما.
بعد مرور ثلاث سنوات ونصف سنة على اندلاع العدوان على اليمن، وفي أعقاب ثلاث جولات تفاوضية لم يفلح أي منها في وقف الحرب وإرساء تسوية سياسية، تعقد الأمم المتحدة بواسطة مبعوثها الجديد، مارتن غريفيث، جولة جديدة من مشاورات السلام، كان يُفترض أن تنطلق اليوم الخميس في مدينة جنيف السويسرية، لولا أن قيادة «التحالف» عمدت، كما دأبها في المرات السابقة، إلى تأخير انطلاق وفد «أنصار الله» و«المؤتمر الشعبي العام» من صنعاء إلى جنيف، وهو ما تسبّب بتأخّر بدء المشاورات، ريثما تتمّ معالجة المشكلة بتوفير طائرة عمانية للوفد ومنحها ترخيصاً للانطلاق. هذا التأخير، وإن لم يبدِ غريفيث انزعاجه إزاءه، مؤكداً أن المحادثات «ستتمّ»، وستستمرّ لمدة 3 أيام وفقاً لما اقترحه، إلا أنه بعث برسائل سلبية إلى «أنصار الله»، التي انتقدت «مماطلة» المنظمة الدولية في توفير الطائرة، على رغم «التجاوب مع طلباتها التي قدّمتها دول العدوان».
المماطلة، وقبلها التصعيد الدموي بوجه المدنيين في صعدة والحديدة، لم يمنعا «أنصار الله» وحلفاءها من التعاطي بجدية مع المحادثات التي دعا إليها غريفيث، خصوصاً أن الأخير (بريطاني الجنسية) لا يزال يبدي قدراً من التوازن، وأن الأمم المتحدة لم تمانِع هذه المرة التعامل مع الحركة وحلفائها كقيادة سياسية تمثّل سلطات صنعاء (المجلس السياسي الأعلى وحكومة الإنقاذ)، وهو ما انعكس في تشكيلة الوفد الوطني الذي نُزع عنه اليوم الطابع الحزبي. إنجاز الاعتراف بقيادة صنعاء، والذي أبدت الحكومة الموالية للرياض انزعاجها من بوادره (التي حملها تقرير الخبراء الأمميين الأخير بإشارته إلى «أنصار الله» بصفتها سلطة أمر واقع)، يشكّل نقطة فارقة لمصلحة «أنصار الله» في هذه الجولة التشاورية. نقطة تنضمّ إلى أوراق قوة أساسية في مُقدّمها مراكمة الإنجازات العسكرية، التي أضيف إليها أخيراً توسيع دائرة الاستهداف لتشمل أبو ظبي ودبي بعد الرياض ومدن سعودية أخرى، وقبله الصمود الأسطوري على جبهة الساحل الغربي والذي أفشل خطط «التحالف» للسيطرة على محافظة الحديدة وانتزاع مينائها. يُضاف إلى ذلك، تمكّن «أنصار الله» من الحفاظ على وحدة الجبهة الداخلية، والإبقاء على عرى الشراكة مع «المؤتمر الشعبي» بعد مقتل زعيمه علي عبد الله صالح، بما جعل جناح صنعاء هو الأقوى والقابل للاعتراف به وإشراكه في المشاورات مقارنة ببقية الأجنحة في الرياض والقاهرة.
في المقابل، يحضر وفد ما تُسمّى «الشرعية» إلى جنيف وقد احترقت بالكامل ورقة الرمز الذي خيضت الحرب تحت شعار الحفاظ على سلطته، والمقصود الرئيس المنتهية ولايته عبد ربه منصور هادي الذي تفيد المعلومات بأنه يعاني وضعاً صحياً حرجاً، في وقت بدأ الحديث عن ترتيبات لنقل صلاحياته إلى نائبه أو شخصية أخرى. مُمثِّلو هذه «الشرعية» المدعومة سعودياً وإماراتياً يجلسون إلى طاولة الحوار وهم منقسمون، ومُشتّتون، وفاقدو رؤية استراتيجية وأوراق تفاوض. على المستوى العسكري، لا تزال الميليشيات الموالية للرياض وأبو ظبي عاجزة عن تحقيق إنجاز يمكن ترجمته سياسياً، في حين يتنازع قادتها السيطرة على ما تُسمّى «المحافظات المُحرَّرة» في ظلّ اختلافات جذرية في الرؤى والمشاريع والمصالح. حتى الورقة الاقتصادية التي كانت الجبهة الموالية لـ«التحالف» تأمل باستخدامها كعامل ضغط بوجه «أنصار الله»، تحوّلت إلى عبء على تلك الجبهة، وارتدّت تبعاتها عليها مع عجز حكومة هادي عن وقف انهيار العملة المحلية، وما تسبّب به ذلك من آثار كارثية. ومن هنا، يُفترض أن تشكّل الهبّة الشعبية المندلعة اليوم في جنوب اليمن عنصر تأثير إيجابي على مسار المشاورات، لناحية إجبار «الشرعية» ومن ورائها «التحالف» على تقديم تنازلات في ملف البنك المركزي. أكثر مما تقدّم، تنبئ انتفاضة الجنوب بأن المزاج الشعبي العام الذي بدأ يتشكّل منذ فترة في مواجهة السعودية والإمارات والقوى المحلية المحسوبة عليهما بدأ يتخذ مساراً ثورياً، من شأنه إيقاظ «التحالف»، خصوصاً الإمارات، من غفوة النفوذ الموهوم الذي اطمأن إليه، وقدرته على التحكم بموارد اليمن وثرواته ومرافقه الحيوية.
خلف «الشرعية»، تتلّطى كل من السعودية والإمارات، مكابِرتَين إلى الآن في الاعتراف بهزيمتهما التي لا تفتأ تتأكد يوماً بعد يوم. اعتراف يبدو شديد الصعوبة بالنسبة إليهما، لما سيتبعه من نتائج على المستوى الاستراتيجي من شأنها تبديل وجه اليمن لعقود مقبلة. من هنا، تتطلّع الرياض وأبو ظبي من وراء المشاورات إلى هدفين اثنين: تقطيع الوقت على أمل أن تتمكّن القوات الموالية لهما من تحقيق اختراق ذي طابع نوعي واستراتيجي، وتخفيف الضغوط المتزايدة عليهما بفعل جرائمهما المتواصلة في هذا البلد. صحيح أن حرب اليمن باتت محور خلاف داخل البيت السعودي نفسه (تؤيد الاستخبارات وقف الحرب)، والبيت الإماراتي أيضاً حيث يتململ الحكام (من غير أولاد زايد) من الإصرار على المضي في حرب عبثية، إلا أن سلطات البلدين لا تزال تتفادى خيار الانسحاب، مستفيدة من استمرار الغطاء والدعم الأميركيين للعدوان. وفي انتظار تبدّل تلك المعطيات، لا يمكن توقع ترتيبات جادة لوضع حدّ لعمليات «التحالف»، اللهم إلا إذا كان «جنيف 3 الإنساني» سلّماً للنزول عن الشجرة، وهو ما لا تؤكده مؤشرات حاسمة إلى الآن.