صحيفة الجمهورية
بدأ البلد يتحضّر نفسيّاً للدخول في فترة طويلة من الفراغ الحكومي، بعد سقوط المسودات الحكومية التي أعدمتها لعبة الأحجام والتحجيم، وما تستبطنه من جنوح نحو الاستئثار والتحكّم بالقرار، وتوجيه الدفّة اللبنانية إلى هذا الاتجاه الإقليمي أو ذاك.
المشهد الداخليّ ما يزال تحت تأثير ارتدادات سقوط المسودة الأخيرة، ومطبخ التأليف يبدو خالياً من أيّ فكرة بديلة، تُخرج البلد من الزاوية التي حُشِر فيها، وتفتح باب تلمّس حلول تعيد لحم ما انكسر، وتضع حجر الأساس الصلب لبناء السلطة التنفيذية، بل انّ هذا المطبخ مشتبك مع نفسه، من خلف متراس رئاسي يعتبر المسودة الأخيرة، «أفضل الممكن»، مقابل متراس رئاسي آخر يعتبرها «أسوأ الممكن». ويزيد من حدّة الاشتباك تجمّع المطبّلين والمزمّرين خلف كلّ متراس، والذين أخضعوا البلد في الأيّام الأخيرة لسجال حول السياسة والدستور والصلاحيات، اتّخذ منحى طائفياً بغيضاً. غطّى على أزمة التأليف، وأظهرها كأنّها أزمة صلاحيات بين رئيس الجمهورية الماروني ورئيس الحكومة السنّي.
في هذا الجوّ، عكس زوّار عون ارتيابه من الحديث عن الصلاحيات وفتح جدل حولها، وتأكيده أنّه يستخدم صلاحياته كاملة بالحدّ المسموح به، ولم يمسّ بصلاحيات الرئيس المكلف التي يحترمها ويحرص عليها، معتبراً انّ التمنّي عليه إجراء المزيد من المشاورات واستمرار التواصل بينهما لا يمسّ صلاحياته، بل يشكّل حافزاً من أجل تشكيلة متوازنة».
بكركي
هذه الصورة السيّئة التي رسمها «سجال الصلاحيات»، حذّرت منها البطريركية المارونية، عبر البيان الشهري لمجلس المطارنة الموارنة الذي اجتمع أمس في الديمان برئاسة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، حيث استغرب «تأخير تشكيل الحكومة برغم التحديات المطروحة على لبنان».
وناشد السياسيين «تَحمُّل مسؤوليّاتهم وتسهيل تأليف حكومة تقوم بواجباتها الملحّة». على أنّ «الأدهى» في نظر المجلس، «أن تُفتح لدى كلّ استحقاق دستوري، قضايا في الدستور تكون طيّ الكتمان أو النسيان في أوقات الاستقرار الدستوري، وهو الوقت المناسب لطرحها ليتمّ التفكير فيها بهدوء بعيداً عن التحدّي والمنازلات السياسية».
برّي
والأمر نفسه، أكّد عليه رئيس مجلس النواب نبيه برّي، الذي ينقل عنه استغرابه وصول الأمور الى هذا الانسداد، في وقت كان في الإمكان الذهاب الى حلول نوعية تُخرج الحكومة الى النور.
واذا كان برّي يعتبر أنّ الطريق السليم الموصل الى حكومة بالقدر الأعلى من التوافق، هو أن تبادر القوى السياسية الى قراءة المشهد اللبناني بعناية شديدة والتوقف مليّاً أمام التحدّيات والمخاطر التي تتهدّده، والأهم في كلّ ذلك، هو ان تُخضع هذه القوى نفسها لنعمة التواضع الذي يشكّل المفتاح المطلوب لكلّ العقد الماثلة في طريق الحكومة. ومن هنا جاء كلام برّي أمام «نواب الأربعاء» أمس، وتشديده على تنازلات مشتركة من قبل الجميع لمصلحة الوطن والخروج من هذه الأزمة. خصوصاً أنّ لبنان اليوم في غرفة العناية، والوضع الاقتصاديّ خطير. ولفت برّي الى أمر أكثر خطورة يتمثّل بتكثيف إسرائيل لنشاطاتها البترولية بالقرب من الحدود اللبنانية. مشدّداً على أنّ «المطلوب من الدولة اللبنانية أن تتحرك بسرعة لمنع الاعتداء على الحقّ اللبناني، فواجبنا أن نتحرك في أقصى سرعة للدفاع عن ثروتنا النفطية وسيادتنا الوطنية وحدودنا البرية والبحرية».
جمود سلبيّ
إلى ذلك، لا جديد على خطّ التأليف، ولا موعد محدّداً للقاء جديد بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري، وإن كانت بعض التسريبات قد تحدّثت عن لقاء وشيك بينهما، وهو أمر لم تؤكّده مصادر الطرفين، إلّا أنّها اعتبرت اللقاء بينهما ممكناً في أيّ وقت، انطلاقاً من حرصهما المتبادل على التعاون معاً في بلوغ استحقاق التأليف خواتيمه الإيجابية.
الرئيسان ينتظران!
ونقل زوار رئيس الجمهورية أنّه ينتظر لقاء الحريري في بعبدا بعد إنهائه المشاورات التي تمّ الاتفاق عليها في آخر لقاء بينهما. وعكست أجواء «بيت الوسط» بأنّ الحريري ينتظر رئيس الجمهورية للبحث معه في ملاحظاته فور أن يطلب عون ذلك. كما عكست استغرابه لنشر مضمون لقاء الرئيسين والحديث عن ملاحظات، رغم تأكيد الحريري لعون استعداده لمناقشتها معه والتوسّع فيها.
سفرات
وأبلغت مصادر عاملة على خطّ التأليف «الجمهورية» أنّها تتوقع أنّ تنشيطاً ملحوظاً للمشاورات في الأيّام القليلة المقبلة بين الرئيسين، وكذلك بين الحريري وسائر القوى السياسية، لعلّها تُثمر قبل سفر عون في زيارات خارجية، بدءاً بستراسبورغ في 10 و11 و12 أيلول الجاري للمشاركة في افتتاح أعمال البرلمان الأوروبي، ثمّ نيويورك في 23 و24 و25 و26 أيلول حيث يترأس وفد لبنان الى اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ويُلقي كلمة لبنان فيها، وتليها سفرة الى يريفان في 11 و12 و13 تشرين الأوّل المقبل للمشاركة في أعمال قمّة المؤتمر الفرنكوفوني.
لكنّ أجواء مطبخ التأليف ومحيطه، تنسف نتائج أيّ مشاورات قد تحصل، فثمّة هوّة عميقة جداً تفصل بين عون والحريري، ونظرتهما الى تركيبة الحكومة. وكلاهما يرمي الكرة في ملعب الآخر، فعون كما يؤكّد المطّلعون على أجوائه، قدّم كلّ التسهيلات للحريري، التي تمكّنه من حزم أمره والمبادرة الى تشكيل حكومة بالتوافق معه، والمستغرب رئاسيّاً أنّ هذه التسهيلات لم تجد لها ترجمة كما يجب من قِبل الرئيس المكلف.
وبحسب المعلومات، فإنّ عون ليّن موقفه من حصّة «القوّات» التي لا يجب أن تزيد في رأيه عن 3 وزراء، فقبل بـ4 وزراء من بينهم وزير دولة. إذ ليس معقولاً أن تُحصر الحصّة المسيحية من وزراء الدولة برئيس الجمهورية و»التيّار الوطنيّ الحرّ». كما أنّه ليس في وارد القبول مهما كلّف الأمر بإسناد 3 وزراء دروز لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، مع الإشارة الى أنّ مقرّبين من العهد يشيعون انّ كتلة جنبلاط من 9 نواب، لا تخوّله الحصول على 3 وزراء. وثمّة كلام واضح من قبل هؤلاء بأنّه لا يمكن أن تمرّ تشكيلة حكومية لا تتوخى سوى مراضاة «القوات» وجنبلاط.
وتضيف المعلومات انّ الرئيس المكلّف غير مرتاح لسقوط المسودة، وتؤكد أوساط «تيار المستقبل» انّ الحريري يرغب بالتعاون الكامل مع عون، وحريص على أفضل علاقة معه، وعلى هذا الأساس تحرّك في مشاوراته. والمسودة الأخيرة التي وضعها كانت فرصة جديّة لحكومة متوازنة، وبالتالي هو قدّم أقصى ما عنده، ويشعر أنّ هناك من يتعمّد التخريب والتعطيل وسيأتي الوقت الذي يُشار إليهم بالإصبع.
المسودة
واذا كان مصير المسودة التي قدمها الحريري قد حُسم بصورة عامّة على انّها سقطت وانتهت، فإنّ مصادر قريبة من القصر الجمهوري لا تتحدث عن سقوطها، بل انّ رئيس الجمهورية وبعدما تبلّغها من الرئيس المكلّف، وضع ملاحظاته على تمثيل القوات وجنبلاط، وأبلغه انّه لن يرفضها، بل دعاه الى أن يعود للتشاور في شأنها مع القوى السياسية المعنية استناداً الى الملاحظات التي وضعها.
وبرغم تكتّم الحريري على المسودة، فإنّ «حنفيّة» مطبخ، سرّبت تشكيلة تمنح «القوّات»: التربية، العدل، الثقافة والشؤون الاجتماعية. الحزب التقدمي الاشتراكي: الزراعة، المهجرين، ووزير دولة. حركة «أمل»: المالية، الشباب والرياضة والتنمية الإدارية. «حزب الله»: الصحة، الصناعة، ووزير دولة لشؤون مجلس النواب. «تيار المردة»: الأشغال. رئيس الجمهورية و«التيار الوطني الحر» 10 وزراء: الإعلام، الدفاع، نائب رئيس الحكومة، وزير دولة من حصّة الرئيس. ومن المرجح أن يكون لـ»التيار»: الخارجية، الطاقة، البيئة، الاقتصاد، ووزير دولة. ومن حصة «تيار المستقل» رئيس الحكومة، وزارة الاتصالات، الداخلية والعمل.
وبحسب مؤيّدين لمسودة الحريري الأخيرة، فإنّهم يستبعدون أن يبادر الرئيس المكلّف الى تعديلها أو تبديلها، إذ انّها لم تأتِ غبّ الطلب كما يقول المزايدون، بل انّها مبنية على دراسة وتمحيص لواقع كلّ القوى وخصوصاً «القوات» والحزب الاشتراكي. وبالتالي، فإنّ المسؤولية تقع على رئيس الجمهورية لوقف محاولة تحجيم «القوّات» و«الاشتراكي»، ومتابعة التشاور مع الرئيس المكلّف والسير في هذه المسودة، والأهم هو احتواء الجوّ السلبي الذي ساد في الأيام الاخيرة وأدخل البلد في جوّ طائفي خطير لا مصلحة لأحد في الانزلاق اليه.
عون لـ«الجمهورية»
إلى ذلك، إستغرب النائب الان عون أن تصدر بيانات ردّاً على بيان رئيس الجمهورية الذي أعطى فيه ملاحظاته ورؤيته حول التشكيلة الحكومية، وسأل عبر «الجمهورية»: «ماذا يعني أن يكون لرئيس الجمهورية توقيع على مرسوم تشكيل الحكومة؟ ألا يعني ذلك أنّه شريك في التأليف؟ هل التوقيع هو «عملية بصم» على ما يصل إلى رئيس الجمهورية أم أنّ له الحقّ بإعطاء الرأي؟ وما معنى إعطاء الرأي؟ أليس أن يقول رؤيته ونظرته في مبادئ التشكيل؟ ولماذا يريد البعض اعتبار ذلك انتقاصاً من صلاحيات الرئيس المكلّف أو ضرباً لها وللطائف؟ هناك من يحاول أن يفتعل «فتنة دستورية» بين الرئاستين الأولى والثالثة، وإثارة نعرات طائفية وهذا لا يجوز.
وختم عون: «أن يكون لرئيس الجمهورية ملاحظات، هذا من حقّه، كما يحقّ لرئيس الحكومة المكلّف بوجهة نظر مختلفة. إنّما في نهاية المطاف، يجب أن يستكمل الرئيسان نقاشهما لإزالة التباينات الأخيرة والخروج بالصيغة النهائية. وأعتقد أنّ ما تبقّى ليس بكثير ويحتاج إلى جولة تفاوض أخيرة انطلاقاً من ملاحظات رئيس الجمهورية على الصيغة المبدئية التي رفعها الرئيس الحريري».
«القوات»
وقالت مصادر «القوات» لـ«الجمهورية»: المؤسف انّ هناك من يحاول أن يضع المشكلة لدى «القوات». علماً انّها عرضة للاستهداف ليس الآن فقط بل قبل ذلك. ففي الحكومة السابقة تعرّضت للاستهداف بمحاولات منع وزرائها من العمل، وفي مرحلة التأليف الحالية، تعرّضت للاستهداف بمحاولة إلغاء نتائج الانتخابات التي أظهرت «القوات» قوّة كبيرة لها تمثيلها السياسي والشعبي والنيابي الواسع، ثمّ استُهدفت بأن كان لها موقع نائب رئيس الحكومة فانتُزع منها، ثمّ استُهدفت بتحريمها من حقيبة سيادية، ثمّ استُهدفت في محاولة تحجيم حصّتها الوزارية ونوعية الحقائب التي ستُسند إليها.
وأشارت المصادر الى انّ «القوات» وصلت الى الحدّ الاقصى والنهائي من التنازلات التي قدّمتها، اذ طالبت بـ 5 وزراء وبموقع نائب الرئيس وحقيبة سيادية، ثم قبلت بـ 4 وزارات من دون نائب رئيس ولا حقيبة سيادية، شرط أن تكون هذه الوزارات وازنة. ولاحظت المصادر انّ ثمّة طرفاً يعتبر نفسه غير معنيّ بأن يقدّم ايّ تنازل، فيما هو يصرّ على أن يكون التنازل من قبل غيره، بحيث يقدّم التنازل تلو التنازل. من هنا نؤكّد انّ «القوات» وصلت بقبولها بالوزراء الـ 4، الى السقف الأعلى من التنازل والكرة ليست في ملعبها.
الّا انّ المصادر أشارت الى انّ القوات طلبت أن تُسند إليها وزارات العدل، الأشغال، التربية والطاقة التي تعتبرها معادلة لحقيبتين سياديتين. وقال: لا يمكن لـ«القوات» أن تناقش في موضوع الحقائب الـ 4 المقترحة، ونحن متمسكون بها من دون وزارة دولة (التربية، العدل، الثقافة والشؤون الاجتماعية)، إلّا إذا أُدرجت وزارة الطاقة من ضمن حصّة «القوات»، فهنا «القوات» على استعداد للنقاش بنوعية الحقائب الأخرى. علماً انّهم يطرحون حالياً ان تُنزع من «القوات» واحدة من حقيبتي الشؤون والتربية لاستبدالها بوزير دولة، وهو أمر نرفضه. وفي الخلاصة إذا فوتحنا بأيّ موضوع للنقاش، وتقديم تنازل إضافي، فهذا يبدأ من منحنا وزارة الطاقة وليس أقلّ من ذلك.