عماد مرمل – الجمهورية
يبدو أنّ سلحفاة التفاوض الحكومي انقلبت على ظهرها، وباتت عاجزة حتى عن التقدّم البطيء، بعدما تحوّل الأخذ والردّ إلى لعبة تشاطر، وصار همّ كلّ طرف تسجيل الأهداف في مرمى خصمه وتحميله مسؤولية العرقلة، وليس إنجاز التأليف بأسرع وقت ممكن، وفق معايير مطابقة لمواصفات التركيبة اللبنانية.
بعد طول انتظار، حمل الرئيس المكلّف سعد الحريري الى رئيس الجمهورية ميشال عون مسودة تشكيلة وزارية، لم تصمد سوى مسافة الطريق من بيت الوسط الى قصر بعبدا، بعدما وجد عون انّها تخلو من «الدسم» وتتعارض مع التوازنات التي أفرزتها الانتخابات النيابية الاخيرة.
وعليه، لم يتردد «الجنرال» في رفض تشكيلة الحريري، عبر بيان صدر عن مكتب الرئاسة، وكان كافياً لاستنفار رؤساء الحكومات السابقين الذين هبوا للدفاع عن صلاحيات الرئيس المكلّف وحقوقه الدستورية، ما أشعل سجالاً مع «التيار الحر» حول تفسير الدستور وترسيم الحدود بين رئاستي الجمهورية والحكومة.
يشعر عون و»التيار» بانّ هناك من يريد ان يضعهما تحت «إمرة» الأمر الواقع على قاعدة «إمّا ان تقبلوا بحكومتنا أو ان تتحملوا تبعات الرفض امام الرأي العام .» يرتاب الرئيس وفريقه السياسي بوجود محاولة ابتزاز يتعرضان لها، لدفعهما الى القبول بالصيغ المطروحة، في اعتبار انّ الوقت المهدور انّما يُقتطع بالدرجة الاولى من رصيد العهد، وبالتالي يُفترض ان يكون هو البادئ في الصراخ ضمن معركة «عضّ الاصابع»، في حين انّ العارفين بعون يلفتون الى انّ الرجل يهوى بطبعه المعارك الصعبة و»يجوهر» عندما يخوضها.
والأخطر بالنسبة الى الرئاسة و»التيار» هو انّ النزاع على «العقار الحكومي» خرج من اطار التجاذب حول الحصص والأحجام الى العبث بثوابت الدستور وقواعده سعياً الى إحراج رئيس الجمهورية ووضعه في موقع دفاعي، بدل ان يكون طرفاً اساسياً في معادلة التأليف انطلاقاً من «توقيعه الذهبي» الذي يمنحه حقّ الشراكة وليس فقط المشاركة في تحديد شكل الحكومة ومضمونها.
وبينما يستعد عون لانتزاع المبادرة من الرئيس المكلّف، يعتبر الحريري من جهته انّه قدم تشكيلة متوازنة تراعي مصالح جميع القوى وتحقق التوازن الوطني، على قاعدة احترام الأحجام الموضوعية والأوزان الحقيقة، من دون استخدام حقن «البوتوكس» السياسي.
ويؤكد المطلعون على موقف الحريري ان المسودة التي عرضها على عون لا تندرج في سياق المناورة او التكتيك السياسي، بل هي جدية وواقعية وتعتمد على تدوير الزوايا، ترجمة لحصيلة لمشاورات التي أجراها في كلّ الاتجاهات.
ويكشف هؤلاء ان الحريري انتقل الآن الى مربع الانتظار بعدما أنجز ما كان مطلوباً منه لجهة وضع «التصميم الهندسي» لحكومة الوحدة الوطنية، وهو يعتبر ان الكرة اصبحت في ملعب رئيس الجمهورية تحديداً.
وأمام استعصاء العقد الظاهرة والمستترة على المعالجة، يتوقع أحد المفاوضين البازرين ان يمرّ شهر ايلول من دون تشكيل الحكومة، مشيراً الى انّ هناك نقاشاً في الدائرة اللصيقة بعون حول ما إذا كان من الافضل ان يبعث برسالة «المصارحة» الى مجلس النواب قبل سفره الى نيويورك ام بعده.
ووسط هذا المخاض العسير، تبدو «القوات اللبنانية» مرتاحة الى وضعها بعدما خاضت المفاوضات بتكتيكات متنوعة وسقوف متحركة، ما سمح لها بتوسيع مروحة المتفهمين لطروحاتها الحكومية، من الرئيس نبيه بري الى الرئيس سعد الحريري مروراً برئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، بل هي استطاعت ايضاً تفادي الاحتكاك مع «حزب الله» في هذا الملف، موحية لمن يهمه الامر بانّ محاولة عزلها فشلت، وبأنّ «التيار» الذي سعى الى ذلك بات هو المعزول.
ويقول مصدر مواكب لمجريات كواليس التأليف انّ «القوات» تمكنت من الظهور بمظهر من يقدم التسهيلات والتنازلات لتسهيل تشكيل الحكومة في مواجهة تشدد «التيار» وتمسكه بمطالبه، مشيراً الى انّ ايّ مراقب لسلوك سمير جعجع يلاحظ انه اعتمد سياسة «الكرّ والفرّ»، تبعاً لما يقتضيه كلّ ظرف تفاوضي.
ويلفت المصدر الى انّ جعجع أدار هذه المرة المفاوضات مع الحريري بحنكة واعتمد دبلوماسية «السهل الممتنع» التي تنطوي على الاستعداد لتقديم تنازلات موضعية مقابل «قضم» مكاسب استراتيجية، بحيث انّه لم يجد مانعاً على سبيل المثال في ان»يبيع» نيابة رئاسة الحكومة لعون، والوزير الخامس الذي كان يطالب به للحريري، والحقيبة السيادية لبري، إذا كان سيعوّض عن هذه المواقع بحصة وزارية وازنة.
وضمن هذا السياق، علمت «الجمهورية» ان جعجع طلب رسمياً خلال اللقاء الأخير مع الحريري منح «القوات» حقيبة «الطاقة»، قائلاً للرئيس المكلّف: نحن نريد «الطاقة»، وإذا كان هناك قبول بأن نحصل عليها، ما بتفرق معنا عندها طبيعة الوزارات الـ 3 الأخرى..
وذهب جعجع في طرحه بعيداً، مؤكداً للحريري انّ «القوات» تلتزم في حال منحها «الطاقة» بأن تعيد الكهرباء 24/24 الى كلّ لبنان خلال 6 أشهر من تاريخ استلامها لهذه الحقيبة، وكذلك تلتزم بأن تبني معامل الانتاج التي يحتاج اليها لبنان خلال سنة ونصف السنة. وأضاف جعجع مخاطباً الحريري: أنا مستعدّ ان «أشارط» على هذا الأمر، ومعنا شاهدان على الشرط هما ملحم رياشي وغطاس خوري.
ردّ الحريري بانّه سيجرّب اقناع الوزير جبران باسيل بالتخلي عن «الطاقة»، لكن رئيس «التيار» اعترض بشدّة على هذا الاقتراح، مؤكداً انّه من غير الوارد الاستغناء عنها.
ويُنقل عن الحريري انّه قال لجعجع، على سبيل «المزاح الموجه»: لو اعطيناك 4 وزارات دولة، لديّ إحساس بأن «التيار الحر» لن يقبل..
وفيما يعتبر جعجع انّه فعل اقصى الممكن لتسهيل ولادة الحكومة، يشدد القريبون منه على ان المقبول قواتياً بات واضحاً: إما 4 حقائب وازنة من دون «سيادية» ووزير دولة، وإما 4 حقائب تتضمن واحدة «سيادية» ووزير دولة..
وحتى ينقشع غبار الشروط والشروط المضادة، يشير مرجع سياسي في مجالسه الخاصة الى انه سمع من قيادي في «التيار» ان المصالحة مع «القوات» أفادت رئيسها بالدرجة الاولى، لانها سمحت بتبريد «عصب» الجمهور البرتقالي وتلميع صورة جعجع، ما ترك تأثيرات على مسار الانتخابات النيابية ولاحقاً على الحسابات الحكومية.