صحيفة الجمهورية
غداة اللقاء الفاشل في قصر بعبدا بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري، بدا انّ الاستحقاق الحكومي ماضٍ الى مزيد من التعقيد، وبالتالي التأخير في إنجازه قريباً ما لم يبادر الافرقاء المعنيون الى تقديم تنازلات متبادلة على مستوى ما يطرحونه من شروط ومطالب، في وقت لم يعرف ما اذا كانت التشكيلة الوزارية التي قدمها الحريري لعون قابلة للنقاش والتعديل اذا استدعى الامر، ام انها رُدّت كلياً وبات على الرئيس المكلف تقديم تشكيلة جديدة، علماً انّ ما رشح من قصر بعبدا واوساط سياسية يفيد انّ عون رفض هذه التشكيلة برمّتها. وهذا الواقع دفع رئيس مجلس النواب نبيه بري «المتشائل»، حسبما قال في بعلبك اخيراً، الى التعبير عن عدم ارتياحه، وقال: «بات مطلوباً من الجميع بلا استثناء التضحية والعمل لمصلحة البلد». وأكد انه ما زال عند إصراره على «ان يعمل مجلس النواب بمعزل عن موضوع تأليف الحكومة». وفي ظل هذه الاجواء تبلغت المراجع المعنية بالتأليف أمس أنّ الدستور اذا كان لا ينصّ على مهلة محددة لتأليف الحكومة، فإنّ وضع لبنان اصبح خارج المهل لإنقاذه. وفي هذا السياق، علمت «الجمهورية» انّ مراجع ديبلوماسية مهمة أبلغت الى بعض المسؤولين هاتفياً انزعاج الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الأميركية وحتى الأمم المتحدة من الوضع اللبناني السائد، وانه في حال استمرار الجمود الحكومي فمن المرجّح ان تحوّل المساعدات التي رُصدت للبنان الى دول أخرى.
بدلاً من أن توجد الصيغة الحكومية التي سلّمها الحريري لعون حلاً لـ«حرب الاحجام» الدائرة بين الاحزاب والتيارات السياسية الراغبة المشاركة في الحكومة العتيدة، فإنها فجّرت حرب مواقع وصلاحيات بين رئاستي الجمهورية والحكومة، مذكرة بسنين قديمة لتبدو معها البلاد وكأنها عادت الى مرحلة ما قبل «اتفاق الطائف»، علماً ان مصادر رسمية عليا تعتقد أن تطبيق هذا «الطائف» في السنين الماضية كان خاطئاً وقد حان الوقت لتطبيقه بنحو متوازن، فإذا كان قد حدّ من صلاحيات رئيس الجمهورية فإنه لم يعدمها نهائياً. ومن هنا، ستبدأ في الايام المقبلة اتصالات لتحديد مفهوم الدستور المنبثق من «اتفاق الطائف» انطلاقاً من الاشكالية التي يثيرها تأليف الحكومة المتعثر.
الحريري
وكرر الحريري امس تأكيده ان التشكيلة الوزارية التي يعمل عليها «ليس فيها منتصر أو مهزوم، وهي تراعي صفات الإئتلاف الوطني وتمثيل القوى الرئيسة في مجلس النواب، وتؤسس لفتح صفحة جديدة بين أطراف السلطة التنفيذية، من شأنها أن تعطي دفعاً لمسيرة الاصلاح والاستقرار». وشدد على «انّ معايير تأليف الحكومات يحددها الدستور والقواعد المنصوص عنها في «اتفاق الطائف»، وأيّ رأي خلاف ذلك يبقى في إطار وجهات النظر السياسية والمواقف التي توضع في تصرّف الرئيس المكلف. وأكد ان «لا داعي لإثارة الالتباس والجدل مجدداً حول امور تتعلق بالصلاحيات الدستورية، خصوصاً انني متوافق مع رئيس الجمهورية على الآليات المعتمدة وفقاً لما يحدده الدستور»، مشيراً الى «انّ معايير تأليف الحكومات يحددها الدستور والقواعد المنصوص عنها في «اتفاق الطائف». وأكد على انه لن يفقد الأمل بالوصول الى اتفاق حول الصيغة الجاري العمل عليها، ويعتبر انّ المسؤولية شاملة في هذا الشأن، وانّ الجميع محكومون بتقديم التنازلات وتدوير الزوايا وتوفير الشروط المطلوبة لولادة الحكومة.
ولكن ما لم يقله الحريري علناً وفي وجه عون، قاله على ما يبدو الرؤساء السابقون للحكومة: نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام (والأخيران من فريق الحريري). حيث اكد هؤلاء، في بيان رداً على البيان الصادر عن مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية بعد تسلّم عون التشكيلة الحكومية من الحريري، انّ إشارة بيان الرئاسة الى الأسس والمعايير التي كان قد حدّدها رئيس الجمهورية لشكل الحكومة «إنّما هي إشارة في غير محلها لأنها تستند الى مفهوم غير موجود في النصوص الدستورية المتعلقة بتشكيل الحكومات في لبنان».
بعبدا ترد
وردّت مصادر وزارية قريبة من قصر بعبدا على مضمون بيان رؤساء الحكومات السابقين، فقالت لـ«الجمهورية» انّ «البيان اشار الى مواد دستورية مهمة وصريحة، لكنه تجاهل مواد أخرى بارزة وتوازيها أهمية. وهي تتصل بطريقة تأليف الحكومة وتلك التي تحدد صلاحيات رئيس الجمهورية، وتحديداً المواد 49 و50 و53. فهي مواد لا يمكن لأحد التنكّر لمضمونها، خصوصا لجهة وضوحها بحيث انه لا يمكن تقديم اكثر من تفسير واحد لها على غرار بعض المواد التي تحتمل اكثر من تفسير». واضافت: «الدستور أعطى رئيس الجمهورية صفة رمز وحدة البلاد وحامي الدستور وهو الوحيد الذي يُقسِم على الدستور من بين المسؤولين وفق ما تقول به المادتان 49 و50، وبالتالي فهو شريك ايضاً في عملية التأليف ويرأس جلسات مجلس الوزراء عندما يشاء ويحق له وحده طرح اي موضوع على الجلسة من خارج جدول الأعمال الذي يضعه رئيس الحكومة بالتنسيق معه، كذلك هو الوحيد المفوض والمسؤول تجاه اي مفاوضات او معاهدات دولية. ومن يقرأ الدستور يرى انّ كل هذه الملاحظات لا تحتمل سوى تفسير واحد ولا تخضع لأي نقاش، خصوصاً إذا ما اضيف اليها انّ رئيس الجمهورية يصدر مرسوم قبول استقالة الحكومة وتكليف رئيس الحكومة الجديدة وهو من يوقّع مراسيم تشكيل الحكومة وتسمية الوزراء بالاتفاق مع رئيس الحكومة. ولذلك، فهما شريكان أساسيان في هذه المهمة، وهو ما تقول به المادة 53 من الدستور التي أعطت الرئيس ايضاً حق رد كل المراسيم والقوانين. وبالتالي، فإنّ من يعتبر انّ توقيعه لها شكلي فهو مخطىء».
وتعليقاً على بعض التسريبات التني تناولت ملاحظات رئيس الجمهورية على تشكيلة الحريري والقول انه أقفل اي نقاش فيها، قالت المصادر «انّ رئيس الجمهورية كان امس الاول على توافق مع ما قاله الرئيس المكلف نفسه، فهما اعتبرا انّ ما رفعه الحريري هو تشكيلة مبدئية قابلة للبحث في ضوء الملاحظات التي عبّر عنها رئيس الجمهورية، وهي ستبقى قيد البحث ولم يقفل الباب امام اي تعديل يمكن ان يطرأ في ضوء المشاورات والاتصالات المنتظرة».
وأكدت المصادر نفسها «انّ للملاحظات التي أبداها عون أسساً واضحة وصريحة وليست من عدم، ويمكن إدراجها تحت سقف سلسلة من العناوين أبرزها العدالة والتوازن ورفض التهميش، وعدم طغيان فئة على أخرى لتعكس بنحو واضح نتائج الإنتخابات التي جرت على أساس النظام النسبي للمرة الأولى».
وفي التفاصيل ـ أضافت المصادر ـ انّ التشكيلة افتقدت الى التوازن في توزيع حقائب الخدمات، فأعطت كتلة «الجمهورية القوية» حقيبتين وكتلة «لبنان القوي» حقيبة واحدة على رغم انها تنتشر بنوابها على 15 دائرة انتخابية وتنتشر الأولى على 12 دائرة، وأعطت حقيبة خدماتية لكتلة «المردة» وهي من 3 نواب وواحدة لـ«المستقبل» التي تجمع 19 نائباً. وحرمت كتلة «التنمية والتحرير» من حقيبة خدماتية وأعطتها واحدة سيادية على رغم من انها تجمع 17 نائباً، ولم تعط كتلة «الوفاء للمقاومة»» حقيبة خدماتية على رغم انها تجمع 13 نائباً.
وعلى مستوى «وزارات الدولة» فقد تم توزيع 3 منها على كل من السنّة والشيعة والدروز، وأعطت الوزارات المسيحية الثلاث لـ«لبنان القوي» ورئيس الجمهورية وحجبتها عن تكتل «الجمهورية القوية»، وهو ما يعبّر عن حجم اللاتوازن فيها. ولا يخفى على احد انها حصرت الحقائب الدرزية الثلاث بطرف واحد هو الحزب التقدمي الإشتراكي وحجبت الحقائب نهائياً عن السنّة من خارج «المستقبل».
وسألت المصادر: «هل تكفي كل هذه الحقائق لتأكيد أهمية الملاحظات التي أبداها الرئيس وواقعيتها في ظل اعتماد اكثر من معيار للتمثيل وافتقارها الى العدالة والتمثيل الحقيقي؟».
سؤال إلى الكتل
وكان الحريري قد وجّه سؤالاً إلى كل الكتل السياسية في لبنان: «هل البلد أهم منّا جميعاً؟ أم نحن أهم من البلد؟». ورداً على وصف «لبنان القوي» الصيغة التي قدّمها إلى عون بأنها «رفع عتب»، فقال: «الصيغة عند رئيس الجمهورية، وأنا من وضعها، وأعطيتها إلى فخامته، ولا أحد ثالث بيننا، ولا أفهم من أين أتى الآخرون بكل التحليلات التي يصدرونها، أيّاً كانوا؟». وقال: «إذا كانت لدى البعض ملاحظات على بعض الحقائب، فليعلنها، لكنني لا أفهم لماذا كل هذه التحليلات والصعود والهبوط؟ أكاد أقول انني كتبتُ هذه الصيغة بيدي لكي لا يطّلع عليها أحد، فقط لأنني قلت انّ الأمر من صلاحياتي وصلاحيات فخامة الرئيس، نتشاور ونتعاون ونتحدث». أضاف: «صلاحياتي واضحة في الدستور، ونقطة على السطر. هذا، لا يجب أن يكون موضع نقاش، بل تشكيل الحكومة وطريقة إخراج البلد من المأزق الاقتصادي. أمّا الخلاف على الحقائب ففي رأيي لا طائل منه، وإذا اعتقدَ أيّ فريق سياسي أنه أكبر من البلد أو مصلحة البلد، فهنا تكمن المشكلة».
ورداً على ما ورد في بيان بعبدا من وجود ملاحظات على الصيغة، قال الحريري: «إذا كانت الملاحظات قابلة للنقاش نتحدث في شأنها، لكن المشكلة أن هناك من ينطلق دائماً في البلد من الأمور السلبية، فيما أرى أنه لا بد من أن ننطلق من الأمور الإيجابية وعلينا أن نرى النصف الملآن من الكوب، وعلى هذا الأساس نتحدث، ويجب أن نهدأ قليلاً». ونفى أن يكون هناك خلاف بين «لبنان القوي» و«المستقبل»، وقال: «المشكلة ليست بين حصصي وحصص التكتل، هذه الصيغة قدمتها إلى فخامته لكي نتشاور معاً فيها، فإذا ببعض الناس يخرجون وكأنهم يعرفون الصيغة، فعلى أي أساس يكون ذلك؟».
«لبنان القوي»
وكان تكتل «لبنان القوي» قد اعتبر أنّ نصف التشكيلة التي قدمها الحريري هي تشكيلة «رفع العتب»، ورفض «الاحتكار» في تمثيل الطوائف، معتبراً أنها محاولة لإجهاض نتائج الانتخابات وعدم احترامها. وأكد أنه «لا يريد البقاء بلا حكومة، ولكنه ليس على استعداد لأن يكون شاهد زور دستورياً وديموقراطياً»، مؤكداً «احترام صلاحيات كل المؤسسات الدستورية».
«القوات»
بدورها، قالت مصادر «القوات اللبنانية» لـ«الجمهورية»: «مع ولادة الحكومة وفق الصيغة التي قدمها الرئيس المكلف وهي صيغة متوازنة جداً، وبدل الذهاب نحو انفراج سياسي، شهدنا تدحرجاً سياسياً لا نتمنّاه إطلاقاً وهو كان متوقعاً، لأنّ رفض الصيغة سيأخذ البلاد الى مزيد من الانكشاف السياسي في ظل غياب اي تصور لطريقة ولادة الحكومة.
فصيغة الحريري أتت نتيجة مشاورات مكثفة وهي تعكس نتائج الانتخابات وواقع الحال السياسي، فيما رفضها يعيد الامور الى المربّع الاول الذي كانت عليه، اي محاولة تحجيم الحزب «التقدمي الاشتراكي» و«القوات»، وقد أظهرت هذه السياسة على مدى الاشهر الثلاثة السابقة انها لن تؤدي الى ولادة الحكومة. وبالتالي، الاستمرار في النهج نفسه لن يؤدي الى التشكيل، بل ستبقى الامور على ما هي عليه، لأنّ من يظن انّ في استطاعته تحجيم «القوات» او إحراجها لإخراجها هو مخطئ، ومن يظن ان في استطاعته دفع الحريري الى تأليف حكومة من دون الأخذ بوجهة نظر «القوات» و«الاشتراكي» مخطىء، ومن يعتقد انّ في استطاعته جَرّ الحريري الى «حكومة أمر واقع» أو دفعه الى الاعتذار مخطىء أيضاً. لذلك، امام كل هذه الوقائع وتجنّباً لانتقال الأزمة من أزمة تأليف الى ازمة كيانية وطنية يجب ان يبادر فخامة الرئيس الى وضع حد لكل النقاش الدائر، وان يوافق على الصيغة التي قدمها الحريري وهي صيغة تعكس واقع الحال السياسي والتوازنات والاستفادة من الدينامية الانتخابية التي أفرزتها الانتخابات، لكننا للأسف نفوّت الفرصة تلو الأخرى. لكن اليوم وصلت الامور الى حائط مسدود، ويمكن ان يستمر الوضع على هذا المنوال لأشهر، لأنه لا يوجد اي حل، ومن يراهن على الوقت لا نعتقد انه سيصبّ في مصلحته لأنّ الامور مقفلة وكل السياسات التحجيمية جرّبت وأصابها فشل ذريع ولن تؤدي الى اي مكان. المطلوب هو الاقلاع عن محاولة تأليف حكومة «امر واقع» وحكومة «غالب ومغلوب»، والاتجاه الى حكومة شراكة حقيقية وفق الصيغة التي قدمها الرئيس المكلف. و«القوات» لا يمكنها تقديم اكثر مما قدمته وفق المعروض في الصيغة الحالية، وبالتالي يجب تلقّف فرصة ما وصلت إليه «القوات»، واي محاولة اضافية للضغط عليها ستدفعها الى مراجعة حساباتها بالعودة الى المربّع الاول، بالمطالبة بما يحق لها فعلياً من 5 وزراء وحقيبة سيادية».
شريط المشاورات
وكان الحريري تابع مشاوراته لحل العقدتين «القواتية» والدرزية، فالتقى الوزير ملحم الرياشي، ثم رئيس «اللقاء الديمقراطي» النائب تيمور جنبلاط والنائب وائل أبو فاعور. واكتفى جنبلاط بالقول: «لا زلنا عند مطلبنا في شأن الحصة الدرزية في الحكومة».