نبيل هيثم – الجمهورية
من على منبر «مؤسسة العرفان» قال وليد جنبلاط: «حبّذا لو نحافظ على الطائف، نطبّقه ونطوّره من خلال إنشاء مجلس شيوخ بعد انتخاب مجلس نيابي لا طائفي، بدل شرذمة البلد عبر القانون الحالي». فما الذي يرمي إليه جنبلاط من خلال هذا الطرح وفي هذا التوقيت بالذات؟ وهل سيجد من يتلقّفه في الداخل؟ بل هل يملك طرح كهذا القدرة التي تمكّنه من عبور حقل الألغام اللبنانية واعتباراتها السياسية والطائفية والمذهبية؟
واضح انّ جنبلاط ألقى حجراً كبيراً في بحيرة الطائف، ومن الطبيعي أن يحدوه الأمل في أن يجد رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» من يعزف معه على وتر «التطوير»، خصوصاً من جانب ما تسمى القوى الكبرى سياسياً وطائفياً.علماً انّ مطالبات من هذا النوع صدرت في اوقات سابقة من قبل قوى سياسية فاعلة، إن من الجانب المسيحي الذي رأى وجوب التطوير في الاتجاه الذي يستعيد بعضاً من صلاحيات رئيس الجمهورية التي انتزعها منه الطائف، أو من الجانب الشيعي تحديداً، سواء من الرئيس نبيه برّي صاحب الدعوات المتتالية الى هذا التطوير ومن باب إلغاء الطائفية السياسية، أو الامين العام لـ«حزب الله» الذي ذهب في فترة معينة للدعوة الى المؤتمر التأسيسي، ثمّ الى التأكيد اكثر من مرّة على الحاجة الى تطوير النظام مع الحفاظ على الطائف بكل توازناته.
وكرّت سبحة التفسيرات، والمحاولات لقراءة الفنجان الجنبلاطي، وتوالى الكلام:
– البعض اعتبر طرح جنبلاط ملتبساً يحتاج الى توضيح.
– بعض آخر اعتبره نابعاً من رغبة لدى الزعيم الاشتراكي في تكبير الحجر لتحقيق امر يستحيل تحقيقه ولو من باب التطوير والتجميل.
– بعض ثالث أدرجه في سياق محاولة لإعادة خلط الاوراق الداخلية، وفكّ ما يعتبره الحصار السياسي عليه، وبناء تحصينات حوله، والخروج من حالة الضيق التي يعانيها، جراء الانقلاب في صورة التوازنات السياسية التي أحدثته الانتخابات النيابية.
– بعض رابع اعتبره محاولة استعادة حضور تراجع في الزمن السياسي والرئاسي الحالي، الذي يتغنّى أركانه بأنّ أحد أهم «انجازاته» هو افقاد الزعيم الدرزي وزنه وحضوره في معادلة السياسة اللبنانية.
– بعض خامس، اعتبره محاولة لاثارة مشكلة خصوصاً انّ التطوير الذي يدعو اليه، حدّد نقطة انطلاق اساسية، وهي انشاء مجلس شيوخ بعد انتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، وهذا معناه الغاء الطائفية السياسية التي ما زالت حتى الآن اقوى من كلّ محاولات الغائها، ومانعة حتى التفكير بما يمهّد لهذا الالغاء المتمثل بتشكيل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية ، فهذا الامر دونه خلافات مستحكمة، لا بل استحالات.
واكثر من ذلك كبّر البعض الحجر الى حدّ الافتراض أنّ طرح الزعيم الاشتراكي له دوافعه الداخلية بالتأكيد، انّما هو نابع ايضاً من قراءة لصورة المنطقة، وانّ جنبلاط مدرك انّ المنطقة من حول لبنان ذاهبة الى اعادة ترتيب ورسم خرائط للحدود والاوطان والانظمة، وللعلاقات الناظمة بين فئات كل بلد، وبالتالي فهو يدرك انّ لبنان – ولو على نار باردة – سيعاد فتح ملف علاقات القوى فيه، وكذلك ملف تعديل نظامه السياسي وانسجامه مع المتغيّر القادم.
كلّ هذه التفسيرات، قاربت طرح الزعيم الاشتراكي تطوير الطائف، من بعيد، ولم تلامس السبب الحقيقي الذي حمله على طرحه. ولا خلفية هذا الطرح. فجنبلاط، انطلق من الاساس من مسلّمة الحفاظ على الطائف، اراد ان يفتح باباً لانقاذ هذا الاتفاق بتفكيك العبوات التي تهدد بنسفه.
فالطائف، وفق المنطق الجنبلاطي، دُفع ثمنه غالياً من عمر وابناء البلد، واعتبر مدخلاً الى الحلّ الشامل في البلد لتطوير النظام السياسي، وعنواناً اساساً لتعزيز الاستقرار والوحدة الوطنية والتماسك الوطني في البلد. وليست المشكلة فقط في التطبيق الاستنسابي له، بل في المحاولات الجارية لإقفال هذا المدخل:
– أولا، بمحاولة القاء القبض على الدولة ومفاصلها ومحاولة جعلها جسر عبور الى المصالح والمنافع والمناصب، من الموقع الوظيفي الصغير وصولاً الى الموقع الرئاسي الاعلى.
– ثانياً، بالقانون الانتخابي الحالي، الذي هو نقيض واضح للطائف، واولى نتائجه انّه شرذم البلد وأخذه الى حالة من الطائفية والمذهبية المقيتة والانقسامات الكبيرة. واذا ما استمرّ الحال في هذا الاتجاه، فمعنى ذلك ان البلد بشكل او بآخر، يُستدرَج الى السقوط في ما سقطت فيه المنطقة من توترات وانشقاقات، لا بل مهالك، وبالتأكيد هذا ليس في مصلحة لبنان.
– ثالثاً، بالممارسة على كلّ المستويات السياسية، والوزارية، والنيابية، والادارية، التي تستبيح الطائف من خلال تكريس معايير وأعراف وآليات ووسائل مخالفة للطائف وتطيح بالدستور. الأمر الذي يهدّد بإحالة البلد الى حالة شريعة غاب مفتوحة على كلّ الممارسات السلبية.
– رابعاً، بالخطاب السياسي، الذي عاد الى نبش الماضي بكلّ سواده ووجعه، من قبل فئة اثبتت انّها عبارة عن مجموعة «مياومين» في السياسة، تريد ان يستسلم البلد لمقولة فاخرت بها في فترة الانتخابات ومفادها» لقد عدّلنا اتفاق الطائف بالممارسة، وليس بالنصّ بحكم وجود الرئيس القويّ».
– خامساً، باختلاق أزمة مفاهيم وأزمة تفسير للطائف كما للنص الدستوري، وضرب المعادلة الداخلية والاخلال بتوازناتها عبر نسف مفهوم الشراكة وترسيم حدودها ضمن ما يتفق مع مصالح البعض.
– سادساً، وهنا الأخطر، بسوء فهم البعض للصلاحيات ولحدود هذه الصلاحيات، ومحاولات القفز فوقها بالصوت العالي والصراخ من خلف المنصّات والشاشات.
بحسب المنطق الجنبلاطي فانّ طرح تطوير الطائف، هو رسالة ايجابية يوجهها رئيس الاشتراكي الى كلّ المكونات الداخلية، لتحصين وثيقة الوفاق الوطني أولاً وأخيراً ولا خلفية سلبية فيها ضدّ ايّ فئة مسيحية كانت أو مسلمة، وامّا التطوير الذي يدعو اليه، فهو على قاعدة «تطوير الطائف قبل ان يطير»، وبالتالي هو ليس محصوراً بإنشاء مجلس الشيوخ الذي آن الأوان لتطبيقه وفق ما ينص عليه الدستور، بل انّه يلحظ تطوير كلّ العناصر التي لم تطبق من الطائف والدستور. وانشاء مجلس الشيوخ احد هذه العناصر. والأهم ان المطالبة بهذا المجلس تتمّ وفق ما ينصّ عليه الدستور، وليس وفق الصيغة التي رفعها البعض خلال فترة الإعداد للقانون الانتخابي المشكو منه.
من هنا، فإن فحوى الرسالة الجنبلاطية يفيد «الى اين تأخذون البلد في ممارساتكم، التزموا بالطائف وطبقوه كاملاً، التزموا بالنص الدستوري وطبقوه، ولا يجب التسليم بعدم تطبيقه، لأن هذا التسليم معناه ان نسلّم لأصحاب الممارسات الشاذة بأن يكملوا فيها. فلنخرج من هذه الممارسات كلّها، ودعونا نعيد الى الحياة السياسية روحها الوطنية، وبرنامجها الوطني، وآفاقها الوطنية، والصراع إن حصل، يكون على هذا الأساس، وليس على أساس طوائف او مذاهب أو مِلل أو فئات تمزّق البلد». والأهم انّ فحوى هذه الرسالة يقترن برغبة شديدة لدى جنبلاط وفريقه في أن تتشكل اوسع مساحة سياسية تدفع في هذا الاتجاه.
على حافة الرسالة الجنبلاطية هذه، كان هناك مكان للحكومة المعطّلة، رفع فيه جنبلاط عن نفسه تهمة التعطيل «فالعقدة ليست عندنا»، الامر الثابت والنهائي لدى الزعيم الاشتراكي : «فتشوا عن العقدة في مكان آخر»، مع أنها مرئية من قبل الجميع ويمكن ان يخبّر «التيار الوطني الحر» و» القوات اللبنانية».
وفي المنطق الجنبلاطي كلام إضافي: «يضعون العقدة عندنا، ويتهموننا بالعرقلة، مع انّنا لسنا طرفاً في «تفاهم معراب»، فهل نحن طرحنا شروط التعجيز والابتزاز، وهل نحن الذين انسحبوا من هذا «التفاهم» بعدما ادّى غرضه كجسر عبور الى رئاسة الجمهورية ومن ثمّ انسحبنا منه؟ وامّا في ما خصّ الحصّة الدرزية في الحكومة التي ما تزال ضائعة، فنحن نطالب بما هو طبيعي، هم وضعوا معيار «الاقوى في طائفته»، ونحن نلتزم بهذا المعيار. المشكلة هنا انّ هناك من يصادر هذا المعيار فيطبقه على نفسه فقط عبر المطالبة بحصة وهمية ويعتبرها طبيعية، واما غيره، عندما يطالب بحصته الطبيعية فيعتبر المصادرون هذا المطلب غير طبيعي»!
بالتأكيد ان المنطق الجنبلاطي لا يقرأ في هذه الاجواء ما يبشر بقرب انفراج على خطّ التأليف، كما لا يقرأ تحوّلاً نوعياً في هذا المسار مهما علا صراخ الوعيد والتهديد، إذ لا يملك احد من طبّاخي التأليف (خصوصا ًعلى مستوى رئيس الجمهورية والرئيس المكلف) قدرة إلزام الآخر بشيء.
أُتُّهم وليد جنبلاط من قبل مقرّبين من «التيار» بأنّه منخرط ضمن جبهة تضمّه مع «القوات» و»تيار المستقبل» لإضعاف العهد. المنطق الجنبلاطي يردّ بموقف معبّر: «اذا كان هناك من فكّر فعلاً في اضعاف العهد كما يقولون، فإن القيّمين على الولاية الرئاسية الحالية، اعفوهم من ايّ جهد لإضعافهم جرّاء ما يفعلونه هم بأنفسهم، وامّا بالنسبة الى أصل التهمة فلا يصح فيها سوى وصفها بـ» السخافة والولدنة» ذلك ان كلام رئيس التقدمي واضح وحازم « لست في محور، ولا مع طرف ضدّ آخر، هناك خصوصية لموقفي السياسي، وانا ملتزم بها، ولن اعود الى الانخراط في الاصطفافات التي كانت موجودة».