طوني عيسى – الجمهورية
يمكن أن يبقى لبنان بلا حكومة حتى إشعارٍ آخر، إذا لم تتلقّ القوى الداخلية إشارات خارجية لتحقيق ذلك. ولكن، وفقاً للمنطق ذاته، يمكن أن تولد الحكومة في أيِّ لحظة. ففي تجارب الأزمات السابقة، أدّى اتّصال هاتفي بين السعودية وإيران إلى حلحلة فورية في لبنان وولادة سعيدة للحكومة!
ما تقوله وتفعله غالبية أطراف الأزمة علناً يناقض تماماً ما تقوله وتفعله في الكواليس. فكثير من هؤلاء مرغمون على مراعاة ارتباطاتهم وتحالفاتهم الإقليمية والدولية ولا يمكنهم الخروج منها.
ولذلك، فإنّ الصورة الحقيقية للعبة هي الآتية:
يتشدَّد الرئيس سعد الحريري علناً في مواقفه. فهو يشترط أن يكون الممثل الحصري للطائفة السنّية في الحكومة، ويدافع عن حضور قوي لـ»القوات اللبنانية» والحزب التقدمي الاشتراكي فيها، بما يعني أن يتجاوز مجموع وزراء 14 آذار وجنبلاط أكثر من الثلث.
يعني ذلك أنّ هذا الفريق يريد أن يحتفظ لنفسه بإمكان تعطيل القرارات الكبرى التي قد يتّخذها «حزب الله» وحلفاؤه بغالبية الثلثين. ولكن، الأهم، هو أنّ هذا الفريق يريد امتلاك القدرة على إسقاط الحكومة.
في مواجهة السيطرة المؤكّدة للمحور الإيراني على القرار، بعد حيازته الغالبية في الانتخابات، مطلوب من الحريري و14 آذار وجنبلاط أن يقيموا التوازن الداخلي من خلال شكل الحكومة وبرنامجها، ولو طال انتظار ولادتها. وتراهن القوى الإقليمية والدولية الداعمة لهذا الفريق على تطورات شرق أوسطية تُضعف إيران وحلفاءها.
ويريد الحريري أن يقول للقوى الخارجية إنه الرجل المناسب للمهمة في لبنان. لذلك، هو يأخذ كامل وقته في التأليف ويتمسّك بمطالبه وشروطه. ولكن، يبدو اليوم نهجُه المتشدّد تجاه «حزب الله» وشريكه في التسوية الرئيس ميشال عون و»التيار الوطني الحر» مناقضاً لنهجه المتساهل جداً في رئاسة الحكومة، طوال عهد عون وحتى الانتخابات النيابية.
وهذا ما يطرح السؤال: هل فعلاً قرَّر الحريري أن يتشدّد أم انه ينفّذ اليوم مناورةً سياسية لها مقتضياتها؟
العارفون يجزمون أنّ الحريري ليس هاوياً للتشدُّد، لا في تأليف الحكومة ولا في ممارسة الحكم. ولكنه يراعي متطلبات القوى الحليفة. وهو في العمق ليس شديد التمسّك بحصّة «القوات اللبنانية» التي ساد بينه وبينها كثير من الجفاء وسوء التفاهم، طوال فترة عمل الحكومة. وحتى اليوم، لم تتبدّد تماماً آثار أزمة 4 تشرين الثاني 2017.
يدرك الحريري خصائص الوضع الداخلي جيداً. ولطالما اعتقد أن لا قدرة على إضعاف «حزب الله» وحلفائه في ظلّ المعطيات القائمة، وأنّ الواقعية تقتضي المهادنة وتمرير المرحلة بأقل الخسائر وبما أمكن من مكاسب. ولذلك، هو يميل في قرارة نفسه إلى الاستمرار في نهج التسوية الذي ساد المرحلة السابقة. فالحريري موجود في الحكم بفضل التسوية، وإذا سقطت خرج من السراي الحكومي.
لكنّ الحريري لا يرى ضرراً في أن يستثمر الدعم الخارجي، ضمن حدود الممكن، لتقوية موقعه. وفي الوقت نفسه يرغب في أن يستمرّ نهج التسوية المعتمَد منذ مطلع 2017 ، ولكن،مع مراعاة القوى الحليفة. هذه الحقيقة يدركها «حزب الله» وحلفاؤه ويتفهّمونها. ولذلك يمنحونه الوقت الكافي ويساعدونه على الاحتفاظ برصيده لدى حلفائه الخارجيين!
في أيّ حال، لا يرغب «الحزب» وحلفاؤه في القطيعة مع المملكة العربية السعودية أو حتى الولايات المتحدة، لأنهم يدركون حاجة لبنان إلى التغطية العربية والدولية لاستقراره. وأساساً، من الأسباب التي تدفع «الحزب» إلى القبول بالحريري في موقع رئاسة الحكومة، الاحتفاظ بالجسور الممدودة بين لبنان والمملكة.
انطلاقاً من هذه الحقيقة، لن يتخلّى «الحزب» وحلفاؤه عن تكليف الحريري تشكيل الحكومة المقبلة. وما الكلام المسرَّب أحياناً، عن بعض مصادر 8 آذار، عن خطة مدبّرة لتبديل الحريري سوى جزء من الضغط السياسي المتبادل.
وهكذا، فاللعبة المستورة تتناقض مع ما يجري في العلن: الحريري لا يرغب في التصعيد والتأزيم وإطالة أمد التأليف ويريد الحفاظ على التسوية. وكذلك «حزب الله» وحلفاؤه لا يريدون إحراج الحريري ولا إخراجه، وما زالوا يجدون مصلحة في استمرار التسوية.
ولذلك، الجميع ينتظر الفرج من مكانٍ ما لإنهاء هذه اللعبة «المقلوبة»، والانتقال من وضعية التأهّب المؤلمة إلى وضعية الاستراحة وإحياء التسوية. ولكن، المهم أن تأتيهم «كلمات السرّ» الخارجية لتحقيق ذلك!