المطران مطر: لا مهرب للدولة من تحمل مسؤولياتها التعليمية

أطلقت جامعة الحكمة اسم المثلث الرحمة المطران بطرس شبلي الرئيس الأسبق لأساقفة بيروت على الدفعة الجديدة من خريجيها في كليات الحقوق والقانون الكنسي والعلوم الكنسيّة والعلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة وكليّة الإقتصاد وإدارة الأعمال وكليّة السياحة وإدارة الفنادق وكليّة الصحة، تخليدًا لذكراه في مناسبة المئوية الأولى لغيابه، خلال الإحتفال الذي دعا إليه رئيس الجامعة الخوري خليل شلفون والذي رعاه رئيس أساقفة بيروت وليّ الحكمة المطران بولس مطر في حرم الجامعة في الأشرفيّة -كليّة السياحة وإدارة الفنادق، بمشاركة رئيس اللجنة الأسقفيّة للمدارس المطران حنّا رحمة وأعضاء مجلس الجامعة ولفيف من الكهنة والرهبان والراهبات وشخصيات سياسيّة وقضائيّة ونقابيّة وعسكريّة وجتماعيّة.

توجه رئيس أساقفة بيروت ولي الحكمة المطران ​بولس مطر​ إلى خريجي جامعة الحكمة بالقول: “أنتم أيها الشبان والشابات الخريجون، الذين نهلوا من الجامعة المعرفة الموسوعية والتخصصية في آن، وتهيأوا لخوض غمار الحياة والعمل على غير صعيد، قد صرتم أملا جديدا مطلا على لبنان، فيما هو بحاجة قصوى إلى أمثالكم يوقظون في شعبه الثقة بأن ما يرغب فيه من استقرار لوطنه وعزة لأبنائه تبدو ملامحه اليوم منعكسة على وجوهكم. فاذكروا أولا أنكم شباب وطن تميز منذ نشأته بالحرية، لتحافظوا عليها كنز الكنوز وتحموها من أي خطر يتهددها أو يمس بوجودها. فالحرية لا يحميها ولا يستحقها إلا الأحرار والمستعدون لدفع الأثمان غالية لتبقى في أوطانهم وتزدهر وأي ثمن أغلى من الحياة، نقدمها قربانا في سبيل أمة وشعب على غرار المطران الشهيد بطرس شبلي، أحد أسلافنا الكبار، وقد اخترتم اسمه عنوانا لدورتكم، وأخالكم تقتفون أثره في العمل من أجل الإنسان المؤمن والمثقف والوطن الحر. واعلموا أيضا أن الحرية لا يحافظ عليها إلا بالحرية. فلا استبداد يفيدها ولا وصاية عليها من أحد، كائنا من كان. إنها هي المبتدأ في حياة الشعوب وفي كراماتها وكل ما عداها هو الخبر. هي مصدر الحقوق في الدنيا ولولاها لما كتب قانون ولا وضعت دساتير. غير أنها حرية مسؤولة دائما عن أصحابها وهي تدعوهم جميعا إلى العقلانية وإلى احترام حرية الآخر ليكون في الأرض تجانس بين الأحرار وتوافق على المنحى الإنساني لحضارة الحياة. هكذا هو لبنان، وقد ولد من رحم الحرية إذ التقت فيه جماعاته وطوائفه منشدة لذاتها ​الحرية الدينية​ والإنسانية على حد سواء. وعندما توافق أهله على العقد الجماعي الذي عبر عن كيانهم الموحد، كانت إرادتهم في أن تبقى هذه الحرية علامة فارقة في حياتهم. فسطع نجم لبنان في منطقته كواحة حرية وكمثل يحتذى به في أي تلاق مفرح بين أقرانه وبين الحرية”.

وأضاف: “الأساس الثاني الذي يرتكز إليه لبنان هو في الحياة الديمقراطية والمشاركة في الشأن العام لجميع مكوناته ضمن المساواة بين الجميع والمواطنة الكاملة لكل منهم، أفرادا كانوا أو جماعات. فهلا تنبهتم أيها ​الشباب​ إلى هذه المجموعة من القيم ومن المنجزات التاريخية التي سوف تتسلمون عندما تصل إلى أيديكم ناصية الحكم في هذا الوطن العزيز؟ فلا تمييز يقبل عندنا بين أكثرية وأقلية، ولا حكم يعطى أو يؤخذ بيد فريق دون آخر، لا باسم الدين ولا باسم المذهب ولا باسم عقيدة فكرية أو نظام موضوع. وإن كان المنحى الغربي من ​الكرة الأرضية​ قد ركز على المساواة المطلقة بين جميع الأفراد، فالمنحى اللبناني قد أضاف إلى هذه المساواة الفردية مساواة في الحقوق والواجبات بين الجماعات أنفسها فلا تضيع إحداها في البحر الأكثري دون احترام لخصائصها التاريخية والروحية والثقافية الثمينة. ولقد جاءت هذه المشاركة في الشأن العام بين الأطياف علامة صحة في مسار الوطن منذ تكوينه إلى الآن. وتحول غياب هذه المشاركة أو تعثرها في بعض الأحيان إلى مصدر خضات في حياة البلاد. فالمعول عليكم أيها الشباب أن تولوا هذه المشاركة الدقيقة الأولوية التي تستحق، فيتعلم جيل اليوم من أخطاء أجيال سابقة ويبقى لبنان نورا على جبل يسير بهديه كل من رغب في اتباع الهدى. لقد ارتكبنا أخطاء كثيرة في ممارساتنا، تارة بحق أنفسنا وطورا بحق بعضنا البعض عن طريق المس بمبدأ المشاركة التي وجد لبنان فيها قيمته السميا. فهلا صححنا هذه المسارات وسلكنا الطريق المرسوم لنا والمؤدي بنا حتما إلى التألق والنجاح؟ إن في هذا الأمر تحديا كبيرا لأجيالكم الطالعة، فتنبهوا له أيها الشباب كما يجدر بكم ويليق”.

وتابع: “إن لنا أساسا ثالثا في حياتنا العامة نرتكز إليه. ومن دونه لا قدرة لنا على حماية قيمنا الوطنية والحفاظ عليها لاصطلاح حياتنا العامة في وطننا. هذا الأساس هو أساس المحاسبة الذي يؤدي إلى الشفافية وإلى استقامة أمور الحكم في البلاد بصورة أكيدة. وإلا فنحن نجمع كنوزنا بيد ونبددها بيد أخرى معرقلين طريقنا بطريقتنا، كما نخشى أن نكون اليوم فاعلين. فبعد أن أكد لبنان أحقية عدم حرمان أي مواطن من المشاركة في الحكم، وبعد أن صار لنا ​قانون انتخاب​ يؤمن هذا المطلب. وبعد أن تعودنا مجددا أن نشرك جميع التيارات والهيئات في السلطة التنفيذية الواحدة، وهذا أمر يتطلع إليه الناس في الدنيا بأسرها؛ لم نتنبه بما يكفي لنظام محاسبة الحاكمين أمام الناس عبر ​المجلس النيابي​، لأن المجلس صار حاضرا بفئاته المنوعة كلها في قلب السلطة التنفيذية، وهو بذلك يفقد القدرة على الرقابة المطلوبة والمحاسبة التي لا بد منها لتستقيم الأمور. فكيف نؤمن بعد ذاك مكافأة الناجحين عبر تجديد الثقة بهم ودعوة الفاشلين للذهاب إلى بيوتهم، وذلك باسم الخير العام الذي يجب أن يعلو كل مصلحة فردية أو فئوية، كائنا من كان أصحابها والمفيدون منها؟ والأمور أن تقال بصراحة فأننا باعتناقنا المحدث لمبدأ التوافق لا على جوهر الأمور وحسب بل أيضا على التسيير العادي لشؤون الحكم وعلى اختيار الأشخاص لهذا العمل، قد صرنا بحاجة إلى استبدال ترجيح الرأي الأكثري وتوظيف الرأي الأقلوي في خانة معارضة مسؤولة ومقبولة، بإيجاد صيغة خلاقة تؤمن المحاسبة وتضمن استقرار الحكم وتواصل إعلاء شأن الخير العام دون سواه. فيا أيها الحقوقيون الطالعون إلى ساح الفكر والعمل، ويا أيها الرؤيويون لصالح بلادكم، أنتم جميعا مدعوون إلى تطوير أنظمة المحاسبة والمراقبة، وتأمين تداول السلطة بالوسائل السليمة والسلمية. فنضمن كنوزنا الوطنية الكبرى، ولا نفقدها لعدم خلق شبكة أمان دستوري لها تنجيها من الضياع”.

وقال: “أما المرتكز الرابع لبناء دولتنا القادرة والمنيعة، فهو في إعطائها قلبا وقالبا صفة الدولة الساهرة والمعتنية بشعبها وبأبنائها في أي حالة يعرفونها أو يمرون بها. فالدولة التي كانت لنا في البدايات، أي منذ مطلع القرن العشرين الماضي، كانت قد انطلقت وفي ملامحها صورة دولة البوليس، التي تحمي ​الأمن​ ولكنها لا تتعاطى بما يكفي أمر حاجات المواطنين الاجتماعية والإنسانية. هكذا كانت الدول سابقا وعلى مستوى العالم بأسره. أما اليوم، وبفضل نضال المناضلين من أجل حياة أفضل للأفراد والشعوب، فإن الدول بمجملها قد تحولت إلى دول تنحني على شعوبها لتوقيها من العوز، ولتنظم التضامن الوطني فيها بحيث تصبح قادرة على مواجهة أعباء الصحة والتعليم والعمل والسكن وسائر متطلبات الحياة. وصار الناس على استعداد لاعتبار أية دولة تعجز عن تأمين مثل هذه الأمور لشعبها وكأنها دولة فاشلة في حياتها ومسؤولياتها الأساسية الكبرى”.

أضاف: “من هذا التغيير في المفاهيم لدور الدول وواجباتها، نضيء اليوم على مشكلة التعليم في لبنان وهي على الطريق لكي تصبح مأساة اجتماعية ووطنية خطيرة. فمن المعروف أن الدولة هي المسؤولة أساسا عن تأمين التعليم لأبنائها وعلى كل المستويات الابتدائية والثانوية والجامعية. ولئن كان ​القطاع الخاص​ يهتم بتأمين العملية التعليمية لعدد كبير من الطلاب يبلغ اليوم عندنا ثلثي تلامذة لبنان، فإن هذا القطاع يخفف عن كاهل الدولة الكثير من أعباء هذا التعليم. ولكن إذا عجز هذا القطاع عن الاستمرار في تعليم أولاد لبنان المنضوين تحت لوائه، وذلك لأسباب اقتصادية خطيرة، فإن على الدولة أن تنكب على هذا الموضوع فتتخذ القرارات والتدابير اللازمة لكي لا يحرم التلامذة في هذا القطاع من نعمة التعليم ويتحولوا إلى مشردين في الآفاق”.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى