فراس الشوفي – الأخبار
ثمّة حسابات جديدة عند وليد جنبلاط، تدفعه إلى شبه قطيعة مع ميشال عون. بعد أشهر من المناكفات، اختار جنبلاط الهجوم أفضل وسيلة للدفاع، في وجه عهد عون، مختصراً رؤيته بأنه «عهد فاشل من أول لحظة»، وهو يستجمّ في السويد. أبعد من الحرب مع عون، يذهب جنبلاط في تقديم مقاربة «لا تخدم جهود حلّ ملف النازحين السوريين»، حسب خصومه
سلّف النائب السابق وليد جنبلاط عهد الرئيس ميشال عون حين اقترع لمصلحته في انتخابات الرئاسة من دون تفاهمات مسبقة، ثم خاض العهد في وجهه انتخابات نيابية مفصليّة، تلتها محاولات لتوزير النائب طلال أرسلان. الآن، يجد جنبلاط أن مصلحته في شدّ العصب الدرزي، أثمن من العلاقة مع العهد.
يعرف جنبلاط جيّداً كيف يحوّل التهديد إلى فرصة. بتغريدة واحدة، فاقم الصراع مع عون، وفتح سجالاً كلاميّاً كلّما زاد العونيون حدّته، تكتّل الدروز الجنبلاطيون حول زعيمهم، واستقطبوا من الشريحة الرمادية. غير أن السجال وصل الى مراحله الخطيرة في نهاية الأسبوع، بين مناصري الحزب التقدمي الاشتراكي والتيار الوطني الحرّ على مواقع التواصل الاجتماعي، وكاد ينتقل التوتّر إلى الشارع في المتن الأعلى، حيث تبرز «جماعة الرؤوس الحامية» في الفريقين، أكثر من مناطق التماس الأخرى في الشوف وعاليه. ولأجل ذلك الخطر، جاءت التهدئة في البيان الذي صدر عن «التيار» وعن «الاشتراكي» في منطقة بعبدا ليل السبت ــــ الأحد الماضي، من دون تدخّل وسطاء، في «هدنة» مرحلية من صراع مفتوح، يصعب التحكم به، وخصوصاً إذا تشابكت تطوّرات الداخل اللبناني وتحوّلات الإقليم.
لا يمكن الفصل بين مواقف جنبلاط الأخيرة، حيال العهد (قال إنه «فاشل من أول لحظة») ثم حيال ملفّ النازحين السوريين، وبين زيارته الأخيرة للسعودية، والعلاقة الجديدة مع حزب الله، التي انتقلت من درجة التواصل الأمني ــ السياسي على مدى السنوات العشر الماضية، إلى مرحلة التفاهم، وبقنوات وخطوط اتصال سياسية جديدة.
داخلياً، يحاول جنبلاط بخطواته التصعيدية تسجيل النقاط، وأولاها تحضير الأرضية في الطائفة لتوريث النائب تيمور جنبلاط، في سابقة انتقال سلس، بعدما اعتادت الزعامة وراثة «الدم»، على الأقل في الأعوام المئة الأخيرة. ولا يهمل جنبلاط قطع الطريق على عون في «الجبل الدرزي»، عبر شدّ العصب ذاته، وفي تأكيده على رفض أي تمثيل للدروز في الحكومة من خارج العباءة الجنبلاطية.
العلاقة مع السعودية مصيرية بالنسبة الى جنبلاط. فهي تحميه من تحمّل عبء مبعدين دروز من الخليج في حال القطيعة مع المملكة، يرفدون الكثير من عائلاتهم في الجبل بمال الاغتراب، ويؤمنون الحدّ الأدنى من الدورة الاقتصادية. وفيما يطمح جنبلاط إلى استئناف الدعم المالي السعودي، يريد أن يطوّق الرئيس سعد الحريري بالعلاقة مع السعودية، لضمان دعم الأخير له إذا أصرّ عون على توزير أرسلان عن أحد المقاعد الدرزية الثلاثة في الحكومة.
وعدا عمّا يراه جنبلاط خطر الاصطدام بـ«المجتمع الدولي» إذا استمر لبنان في المواجهة مع المفوضية العليا للاجئين في ملفّ النازحين السوريين، تفرض الأجندة السعودية نفسها عليه، وعلى رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، الذي اضطر إلى «مسايرة» موقف عون حيال قضية النازحين، بعد التماس نبض الشارع المسيحي، وتأييده مواقف رئيس الجمهورية.
في أجواء الزيارة السعودية، كلامٌ كثير عن ضرورة مواجهة جنبلاط والحريري لحزب الله في الداخل اللبناني، على وقع الصراع السعودي المفتوح ضد الحزب في الإقليم. وجنبلاط، يفهم جيّداً مخاطر تنفيذ الأجندة السعودية بحذافيرها. فحين يهاجم رئيس «الاشتراكي» الرئيس السوري بشار الأسد وعون بهذه الحدّة، يُفهم موقفه هروباً إلى الأمام تفادياً للهجوم على حزب الله، الذي ساهم إلى حدٍّ كبير في حماية موقعه، وضبط هجوم عون عليه. ووقفة الحزب إلى جانب جنبلاط، ليست حرصاً على موقع الدروز في النظام اللبناني فحسب، بل لحسابات كبرى، متصلة بدور الدروز في الإقليم، من السويداء إلى الجولان وفلسطين المحتلة.
يبقى السجال حول النازحين السوريين في لبنان الفخّ الأكبر. ثمّة من يريد لبنان أُردنَ آخر، مع ملفّ النازحين التفجيري، لاستمرار الضغط على حزب الله والأسد، وتشكيل تحوّل ديموغرافي ملموس. ومفصل النازحين، بمعزلٍ عن ماهية الموقف اللبناني منه، يصبح خطراً جدياً داهماً متى ينقسم الموقف اللبناني حوله بشكلٍ حاد، مثلما بدأت ملامح الانقسام الآن بالبروز، وخصوصاً بعد موقف المفتي عبد اللطيف دريان في خطبة عيد الفطر.
لدى حزب الله تصوّر واضح للاستخدام السياسي الذي يسعى «المجتمع الدولي» إليه من ملفّ النازحين، ويتشارك فيه القلق مع حلفائه والتيار الوطني الحرّ في الداخل اللبناني، ومع الشريحة الأكبر من اللبنانيين. يدرك الغربيون والخليجيون، و(طبعاً جنبلاط)، أن إسقاط الأسد بات أمراً مستحيلاً والحرب العسكرية في سوريا شارفت على النهاية. لكن هؤلاء يسعون إلى تخفيض «رصيد الأسد» للمرحلة المقبلة، وإفقاده عناصر القوّة التي يستجمعها، بمنع أي انتعاش للعلاقات الرسمية مع لبنان واستخدام النازحين في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وفي لبنان، بتحويل النازحين إلى ورقة ضغط ديموغرافية ــ أمنية على حزب الله، وعلى سوريا نفسها، بعرقلة مساعي العودة الطبيعية إلى المناطق الآمنة الواقعة تحت سيطرة الجيش السوري.
وإن كان موقف دريان مفهوماً بتحويل ملفّ النازحين إلى سجال مذهبي لتعقيده، انسجاماً مع مناخ دولي وسعودي، فإن موقف جنبلاط المتقدّم على الحريري في ملف النازحين يجذّر الصراع أكثر، بخروجه عن شبه إجماع شعبي لبناني قلّما وجد حيال خطر داهم، سيدفع الدروز ثمنه في المستقبل، قبل غيرهم، بوصفهم طائفة مؤسسة للكيان اللبناني. ومع كلّ الوعي الذي يبديه حزب الله بالتعاطي مع جنبلاط، ليس بإمكان للحزب أن يحتمل عرقلة جهوده وجهود عون لحلّ ملفّ النازحين، ومثله الرئيس نبيه بري، الذي قد يجد نفسه محرجاً في الدفاع عن مواقف حليفه الدائم.
هل يبادر بري بالتنسيق مع قيادة حزب الله إلى رأب الصدع الجنبلاطي ــــ العوني، أم يترك للزعيم الدرزي أن يختار التوقيت الذي يعتقده «مناسباً» من أجل أن يوفر لنفسه المخرج، وهو الخبير التاريخي المحلف بـ«المخارج»؟