جوني منير – الجمهورية
تطبيقاً لأسلوبه الهادر الذي وصم نفسَه به منذ وصوله الى البيت الأبيض، مهّد الرئيسُ الأميركي دونالد ترامب للقائه مع رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ اون بعرضٍ قوي هدف من خلاله الى»ترهيبه» لانتزاع أقصى ما يمكن انتزاعُه من خلال التهويل النفسي. وفي خطوة لا سابقة لها في تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية والدول الحليفة، رفض ترامب توقيع البيان الختامي المشترَك لقمّة الدول السبع الكبرى وهاجم الزعماء المشاركين فيها بعنف قبل أن يغادرَ كندا الى سنغافورة للقاء نظيره الكوري الشمالي ويوقع معه «الاتّفاقَ التاريخي»، وكان هدفه الوصول قوياً الى هذا اللقاء الذي يعوّل عليه كثيراً.
ترامب نفسُه أقرّ بالأسلوب التفاوضي الذي يتميّز به، أو ما بات يُعرف بـ»ترامب ستايل»، وهو كشف أنّ الضربة الصاروخية التي نفّذها ضد سوريا في نيسان 2017 بحجّة استخدام الاسلحة الكيماوية كانت فعلياً بمثابة تحذير للزعيم الصيني حيث تمّ توقيتُها بالتزامن مع اللقاء الذي جمع بينهما في فلوريدا.
وانسجاماً مع سلوكه التفاوضي فإنّ ترامب سيعمل لاستثمار نجاح اتّفاقه مع كوريا الشمالية في تكثيف ضغوطه على إيران لإجبارها على الجلوس الى طاولة المفاوضات وإنجاز اتّفاق جديد مع واشنطن بشقّين أحدهما معلن والثاني سرّي يطاول التفاهماتِ السياسية لمصالح البلدَين وترسيم حدودها، وهو ما معناه أنّ ترامب الذي تفرّغ الآن لكباشه مع طهران سيدفع بضغوطه الى الذروة.
وفي شرح إضافي لأسلوبه، فإنّ ترامب يأخذ على سَلَفه باراك أوباما «ضعفه» في تفاوضه مع إيران حول الملف النووي.
ووفق مصادر ديبلوماسية معنيّة فإنه كان على فريق أوباما «خداع» الطرف الإيراني والإيحاء له بأنه جاهزٌ للانسحاب ورفض كل الصفقة من اجل إرغامه على الدخول في مفاوضات سياسية حول ملفات المنطقة ودفع الثمن الذي تطلبه واشنطن، ولكن بدلاً من ذلك استمرّ فريق اوباما في التفاوض حول بنودٍ تقنيّة على رغم رفض الفريق الإيراني التطرّق الى ملفات المنطقة.
في اختصار يشعر ترامب أنه بات متفرِّغاً للضغط بقوة أكبر على إيران لإجبارها على الدخول في صفقة سياسية شاملة. ولم يكن من باب المصادفة ابداً أن يبدأ الهجومُ العسكري على ميناء «الحُديدة» في اليمن بواسطة قوات التحالف السعودي مدعومة بمساعدة عسكرية أميركية، فور مغادرة ترامب سنغافورة.
لكنّ تاريخ إيران يُثبت صعوبة وقوعها تحت تأثير الحروب النفسيّة والضغوط وهذا ما يدركه فريق ترامب. وعلى الارجح، ستدقق طهران كثيراً ومن كثب في سطور الاتّفاق الأميركي- الكوري الشمالي وخلفياته، وهي ستأخذ وقتها ايضاً في تحليل وتمحيض الاستراتيجية التفاوضية التي اتّبعتها بيونغ يانغ لترى ما إذا كانت تستحق الاستنساخ أم لا. بما معناه أثبتت كوريا الشمالية أنّ التوصّل الى إنتاج السلاح النووي ألزم واشنطن بالدخول في مفاوضات معها على قاعدة إحترام مطالبها، ما يعني أنّ إيران قادرة على الذهاب الى مفاوضات مع واشنطن مجدداً، ولكن من موقع قوة اكبر شرط الوصول الى مرحلة السلاح النووي. أو في اختصار الرقص على حافة الهاوية.
واشنطن بدورها تدرك ان طهران تفكر ملياً بهذا الخيار. لذلك وجهت رسائل عسكرية استباقية من خلال إسرائيل لمنع إيران من امتلاك هذه الورقة التفاوضية سلفاً.
ففي سماء اليونان اجرت أربعون طائرة حربية إسرائيلية مناورة جوّية الاسبوع الماضي، حاكت أهدافاً بعيدة المدى ومهمات فوق تضاريس غير مألوفة وتزوّد الوقود في الجوّ ولمهمّات استمرّت ساعاتٍ عدة متواصلة. وكان واضحاً أنّ هذه المناورات حاكت أهدافاً في إيران وخصوصاً أنّ إسرائيل امتلكت أخيراً الطائرات الاكثر تطوّراً في العالم من نوع «إف ـ 35».
وفي رسالة عسكرية ثانية تحاكي احتمال حصول ردّ عسكري بري على إسرائيل أجرى الجيش الإسرائيلي مناوراتٍ برّية واسعة حاكت حرباً على جبهات متعدّدة بما فيها قصف أهداف في غزة. وفي الوقت نفسه أجرى سلاح البحريّة مناورةً أُخرى حاكت هجوماً ضد منصّات الغاز في البحر وهو ما يشبه الرد الى تهديدات سابقة لـ»حزب الله» باستهداف منصات الغاز الإسرائيلية في البحر.
وفي المقابل أظهرت إيران أحد «مخالبها» في غزة وتعمّدت الظهور علناً لتأكيد تحالفها القوي والمتين مع حركتي «حماس» و»الجهاد الإسلامي». ففي «يوم القدس» رعت إيران برنامج تقديم وجبات طعام وافطار لعائلات الشهداء والمصابين في غزة، وخطب بالحضور أحد اقرب مستشاري المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية الإيرانية الدكتور علي اكبر ولايتي عبر الانترنت في حضور رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» اسماعيل هنية، اضافة الى مسؤول رفيع في حركة «الجهاد الإسلامي».
كذلك وزّعت إيران مساعدات مالية لكل مصاب في غزة هي 250 دولاراً وهو مبلغ جيد في معايير غزة. كل ذلك يوحي أنّ الكباش الأميركي ـ الإيراني سيكون كبيراً وقاسياً وصعباً ولبنان سيتأثر به بلا أدنى شك.
في الواقع عندما وجّه مسؤولٌ سعودي رفيع نصيحة للرئيس سعد الحريري بالتروّي قليلاً في تأليف الحكومة إنتظاراً لتطورات إقليمية ستصبّ في النهاية لمصلحة إعادة تعديل موازين القوى، وبالتالي تُبَدِّل شروط ولادة الحكومة، فإنه كان يعني تحديداً كل ما سبق.
تدرك السعودية جيداً، وكذلك العواصم الغربية، أنّ «حزب الله» حقّق انتصاراً كبيراً في الانتخابات النيابية التي جرت. الصحف الأميركية أفردت مساحاتٍ واسعة للحديث عن ذلك. ومن المنطقي أن تترجِم التوازناتُ الجديدة في مجلس النواب في التشكيلة الحكومية المنتظرة.
لذلك هنالك مَن يفضّل حصولَ تبدّل في التوازنات الإقليمية ويراهن على حصوله قريباً، ما يسمح بتشكيلة حكومية مختلفة تؤدّي لإجهاض نتائج الانتخابات النيابية والتوازنات التي أفرزتها في المجلس النيابي.
لكنّ الحريري أخطأ عندما ترجم هذه الرغبة ببرودة في الحركة الحكومية، كونه وجّه الأنظار اليه ولفت الانتباه، لكنه عاد ورمى برؤية حكومية يرفضها عددٌ من الأطراف ما ينقل كرة التعطيل الى غيره.
وتعمّد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لقاء الحريري بعد احتفال قوى الأمن الداخلي في مكان عام ليفهم موقفه الفعلي. وفي اليوم التالي تسلّم منه الصورة التشبيهية للحكومة ولم يكن مسروراً منها.
وانسجاماً مع نصيحة التروّي وحكومة تُناقض توازنات المجلس النيابي يتمسّك الحريري بعدم توزير أيِّ شخصية سنّية من النواب السُنّة الذين فازوا من خارج تيار «المستقبل، باستثناء التبادل مع رئيس الجمهورية. وهو عاد وضخّ بعض النشاط في شرايين التواصل مع حزب «القوات اللبنانية» ومبدياً التزامَه بحصّة وازنة لها. واضاف على ذلك التزامه الحصة الدرزية الكاملة لرئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، خصوصاً بعد زيارته الاخيرة الناجحة للسعودية.
وكان الحريري قد قدّم تصوّرَه لعون والذي يعني ضمناً رفضه العرض الذي كان الوزير جبران باسيل تشاور معه فيه، وهذا العرض يقضي بإعطاء الحقائب الأربع السيادية للعلويين والكاثوليك والسريان والدروز، وسعى باسيل لإغراء الحريري بإعطائه وزارة المال مقابل نيل «اليتار الوطني الحر» وزارة الداخلية، واستنتج الحريري يومها بأنّ باسيل كان يهدف لأن يبيعَه لاحقاً عدم إسناد الحقائب السيادية الأربع للطوائف الصغرى مقابل أن يتمسّك بوزارة الداخلية.
عقد كثيرة يدرك الحريري أنها مستعصية رغم حرصه على الترداد امام زوّاره اللبنانيين والأجانب أنّ الحكومة ستولد في غضون أسبوعين أو ثلاثة على أبعد تقدير.
لكنّ رئيس المجلس النيابي نبيه بري المتفاهم مع «حزب الله» لن يرضى بتغييب المكوِّن النيابي السنّي من خارج تيار»المستقبل» مهما كانت الظروف.
والأهم أنه سيتمسّك بقوة بعدم إجهاض نتائج الانتخابات ما يعني أن لا حكومة في المدى المنظور، وأن لا بدّ من التفرّغ لمراقبة التطوّرات الإقليمية، مع علم الجميع في الداخل والخارج أنه لا يمكن الانتظار الى ما لا نهاية كون الأزمة المالية ستدفع بالجميع الى القبول بالتسويات في يوم ما ولو انه ليس قريباً.