طوني عيسى – الجمهورية
يعتقد محلّلون سياسيون أنّ الحكومة الحريرية المقبلة لن تكون عادية، بل ستكون فاتحة عهدٍ جديد يكرِّس انتقالَ لبنان من مكانٍ إلى آخر. فهي الحكومة التي ينتظرها فريق 8 آذار منذ 13 عاماً. ولذلك، قد يطول الوقت لتأليفها أو لا يطول، لكنها لن تولد إلّا بعد أن تكون جاهزةً لأداء المهمة الملقاة على عاتقها.
يزداد الاقتناع بأنّ لبنان ينزلق إلى المحور الذي خرج منه في نيسان 2005. ويتزايد التداولُ في فريق 8 آذار بمصطلح «تصحيح خطأ 2005». وبعد الانتخابات الأخيرة، خرج هذا المصطلح من الظلّ والهمس إلى الضوء والمجاهرة الواضحة.
فعلى أرض الواقع، أحكم هذا الفريق سيطرته على مؤسسات السلطة. وفيما يشكّل الرئيس ميشال عون مرتكزَ قوة لحلفاء دمشق على رأس السلطة التنفيذية، جاءت الغالبية النيابية الجديدة من داعمي التنسيق بين لبنان ودمشق – الأسد، ومعها رموز أساسيّون من المرحلة السابقة.
وهذه الغالبية هي التي ستفرز التوازنات في الحكومة المقبلة وتحدّد البرنامج والتوجّهات السياسية، فيما لا يبدو الفريقُ «المناوئ»، أي قدامى 14 آذار، قادراً على تغيير قواعد اللعبة.
ويقول العالمون إنّ الخطوات الآتية، القريبة، بعد تشكيل الحكومة ستكون حاسمة في اتّجاه تكريس علاقة وطيدة وانفتاح وتنسيق بين بيروت ودمشق، حول ملفات ساخنة ليس ملف النازحين سوى طليعتها.
وفي تقدير بعض المتابعين أنّ لبنان هو اليوم، في المرحلة الخامسة من التحوُّل السياسي، منذ 13 عاماً:
– الأولى في 2005، عندما خرجت القوات السورية ورفعت دمشق وصايتها المباشرة عن لبنان، وأُعطيت قوى 14 آذار جزءاً وافراً من المبادرة، بدعم أميركي.
– الثانية بعد تموز 2006، ثم أيار 2008، عندما بدأ حلفاء دمشق – الأسد يستعيدون المبادرة المفقودة.
– الثالثة، مطلع 2011، مع سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري وخروجه من لبنان وتضعضع قوى 14 آذار.
– الرابعة، أواخر 2016، مع عودة الحريري ودخوله، مع قوى أساسية في 14 آذار، في تسوية منحت خصومهم أرجحيّةً في السلطة.
– الخامسة، اليوم، تتمثّل ببدء حلفاء دمشق خطواتٍ تنفيذية لإعادة التوازن السياسي الداخلي إلى ما كان قبل 2005، أي إلى ما سمّوه دائماً «تصحيح الخطأ» الذي وقع في لحظة ما، نتيجة تقاطعات دولية وإقليمية.
وهذا المسار «الانحداري» الذي سلكته قوى 14 آذار بدأ منذ اللحظة الأولى في ربيع 2005، عندما عقدت هذه القوى ما سُمّي «التحالف الرباعي» مع حلفاء الأسد. وهي اعتقدت آنذاك أنّ الوقت سيكون حليفها. وقد ناشدت إدارة الرئيس جورج بوش، الداعم الأبرز لها دولياً، أن يوقف ضغوطه على «حزب الله»، وتعهّدت بأن تأخذ على عاتقها مهمّة جذبه إليها سلمياً.
كان الـ14 آذاريون، المنهكون بالضربات المتتالية التي استهدفتهم، يفضّلون التسوية مع «حزب الله» على الطريقة اللبنانية، أي بالمساومة والمراهنة على أنّ الوقت سيكون «حَلّال المشكلات» وسيتكفّل بإنهاء نفوذ «الحزب»، مثلما سمح بإنهاء نفوذ سوريا.
لاحقاً، راهنت 14 آذار على أنّ «الربيع العربي» سيطيح الأسد. فارتأت أن تصمت «ظرفياً» على سلاح «الحزب» وانخراطه في حرب سوريا، ما دامت المرحلة لن تطول. ولكن فشل الرهان. والأمر في سوريا بات متروكاً لتسوية سياسية يبدو فيها الأسد محميّاً إقليمياً ودولياً.
فقد استثمر الأسد- تدعمه طهران- مرةً أخرى، عناوين مواجهة الإرهاب الذي يهدّد الغرب، وتعاطى بواقعية مع الأنظمة العربية الحليفة للغرب، ولم يخرق الهدنة مع إسرائيل، وأظهر دعماً للاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي في لبنان. وسيقوم حلفاؤه الممسِكون بالسلطة بتسويق هذه المعادلة عربياً ودولياً، مستفيدين من وجود قوى 14 آذار السابقة داخل الحكومة ضعيفة أو كـ»شاهد ما شافش حاجة».
البعض يقول: ملفّ النازحين سيكون مقدِّمة، وتليه خطواتٌ للتعاون والتنسيق مع دمشق في ملفات الإرهاب والمخطوفين والمساجين والحدود غير المرسَّمة والترابط في بعض الملفات الاقتصادية كالترانزيت والكهرباء وسواهما الكثير؟
طبعاً، هذا الاتّجاه سيصطدم بإصرار إدارة الرئيس دونالد ترامب على تقليص نفوذ إيران في دول المنطقة، ومنها سوريا والعراق ولبنان. لكنّ بعض الغربيين يعتقدون أنّ احتفاظ الأسد ببعض أوراق القوة في سوريا ليس سيّئاً. ولذلك، هم مدّوا جسورَ التواصل المبكر معه، على المستوى الأمني خصوصاً.
وفي الخلاصة، يبدو لبنان أمام مرحلة يستعيد فيها حلفاء الأسد مواقع خسروها فجأة قبل 13 عاماً. وقد ساعدهم اليوم قانونُ الانتخاب النسبي على تحقيق هذا الهدف. وسيتمّ تكريسُ هذه المواقع في الحكومة العتيدة.
ولذلك، يبدو المخاضُ قاسياً في ما يتعلّق بالحصص بين الكتل النيابية والقوى والشخصيات السياسية، لكنّ هوية المولود معروفة: 8 آذار. وعندما يلتقي الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله أو أركان «الحزب» مع وجوه السياسة المحلية، يكون من الخطأ أن يُطرح السؤال: علامَ تمّ الاتّفاقُ بين «الحزب» وكل من هؤلاء؟ فهذا يبسِّط المسألة كثيراً.
الأكثر دقّة هو طرح السؤال الآتي: ما هي الخطوط السياسية العريضة التي أبلغها «حزب الله» إلى كلٍّ منهم لاعتمادها في الحكومة والمجلس والعهد؟ وفي المقابل، ما الهوامش المتروكة لكلٍّ مِن هؤلاء على مستوى التفاصيل الداخلية؟